للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ما توا ليرزقهم الله رزقاً حسناً)

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:٥٨] أخبر الله عن المؤمنين عامة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:٥٦]، ولكن لا شك أن هؤلاء المؤمنين بعضهم فوق بعض في درجات الجنات، فمنهم من هو في أعلاها، ومنهم من هو أدنى من ذلك، فمن أعلى الناس أجراً يوم القيامة المهاجرون الأولون الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الله عز وجل سيرتهم وحياتهم وهجرتهم بالصدق، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:١٥]، فأخبر عنهم هنا مميزاً ومشرفاً لهم بقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:٥٨] المهاجرون الأولون تركوا ديارهم وأموالهم، وتركوا أهاليهم وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة، وأوذوا أذىً شديداً فكانوا في ديار الغربة ودار البعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم في غاية الضعف والهوان في أعين الناس، فإذا بالله عز وجل يرفعهم يوم القيامة، ويجعل لهم الوضع العظيم الجميل في جنات النعيم، فقال لهؤلاء: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) ليس في سبيل دنيا، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهؤلاء هاجروا لا لدنيا وإنما لدين الله رب العالمين وابتغاء مرضات الله.

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:٥٨] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: (ثم قتِّلوا أو ماتوا) أي: قاتلوا في سبيل الله فمنهم من قتل فكان شهيداً، ومنهم من مات، والاثنان لهما الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:٥٨] هما سواء.

والهجرة عظيمة وفضلها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ميز بين المهاجرين الأولين، وبين من دخل في الإسلام بعد الفتح فقال: (لا هجرة بعد الفتح) مضت الهجرة لأهلها، يعني: الثواب العظيم في هذه الهجرة مضى لأهلها، سواء قتلوا شهداء، أو ماتوا على فرشهم، فالله عز وجل ذكر الاثنين، قال: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا)) والفعل المضارع إذا سبقته لام التوكيد وجاء في آخرها نون التوكيد المثقلة فهذا دليل على جواب القسم فيه، فكأنه يقول: والله ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين.

فجعل للاثنين من مات حتف أنفه، أو من قتل في سبيل الله الأجر العظيم عند الله سبحانه، فهم هاجروا من ديارهم وأموالهم وفي نيتهم أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، فنووا أن يكونوا معه، وأن يجاهدوا معه صلى الله عليه وسلم، واستحضروا نية الجهاد، وتمنوا أن يكونوا شهداء، وكيف لا وقد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا) فلفضل الجهاد تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنوا هم ذلك، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣] فشهد لهم الله عز وجل أنهم الصادقون، وأنهم لم يبدلوا ولم يتبدلوا، ولم يبدلوا دين الله، ولم يغيروا نواياهم، فلذلك كان لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه.

ومن قتل في سبيل الله له الحسنى عند ربه سبحانه، ومن مات أيضاً له الحسنى عند الله؛ لأنه هاجر ونوى الجهاد، ونصر دين الله سبحانه وتعالى، وتقدير الموت بيد الله ليس بيد الإنسان، فالإنسان لا يملك لنفسه أن يموت شهيداً أو يموت على فراشه، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بعده صلوات الله وسلامه عليه مع الخلفاء الراشدين، ويتمنى أن يستشهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ويذهب في مواضع الموت مقاتلاً مجاهداً ومع ذلك كتب الله عز وجل له أن يموت على فراشه، وهو يقول للناس: إنه ما في بدنه موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، رضي الله تبارك وتعالى عن خالد بن الوليد وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم.

الغرض هنا: أن الله وعد هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله سبحانه بصدق نيتهم، وصدق جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم الحسنى عند الله عز وجل سواء قتلوا أو ماتوا، ففي الحالتين لهم الأجر العظيم، فقال سبحانه: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:٥٨] تأكيد من الله سبحانه وتعالى، ووعد مؤكد، قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:٥٨] وذكر لفظ الجلالة دليل على تشريف هؤلاء، فلم يقل: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم رزقاً حسناً) ولكن قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ} [الحج:٥٨] تشريفاً لهؤلاء بأن الرزق من عند الله، فليست الملائكة هي صاحبة الرزق، ولا مخلوق آخر، إنما صاحب الرزق هو الله، إذاً: الرزق يليق به سبحانه وتعالى، يعطي المجاهدين في سبيله رزقاً حسناً، وكل رزق الله حسن سبحانه وتعالى، فإذا كانوا رزقوا الجنة فلا شك أنه أحسن الأرزاق وأفضلها، ولكن الله سبحانه يشرفهم ويفضلهم ويطمئنهم بقوله: لكم أحسن الرزق عند الله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>