للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)]

قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:١٧]، الإنسان كما قال الله عز وجل عنه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:٦] فالإنسان جحود، يبتعد عن ربه سبحانه، والله يمن عليه بالنعم وهو يستجلب لنفسه النقم، فبنو إسرائيل آتاهم الله الكتاب حتى يهتدوا، ويعرفوا أحكام الله عز جل، وآتاهم الحكم، وجعل فيهم من يحكمهم بهذا الكتاب ويبين لهم الحق، وآتاهم النبوة، وجعل فيهم أنبياء، ورزقهم من فضله وفضلهم على العالمين، وآتاهم الحجج والمعجزات والآيات على يد موسى عليه الصلاة والسلام والأنبياء من بني إسرائيل.

فآتاهم بينات من الأمر، لعلهم يتمسكون بالدين ويستجيبون للرسل، فلما أعطاهم كل ذلك قال الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) أي: أن الله فضلهم مع أنهم لا يستحقون هذا التفضيل، ولذلك ليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحقها، فلا ينبغي أن تحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فقد يؤتي الله عز وجل الغنى أقواماً وهم لا يستحقون إلا النار، فليس كل من يؤتى نعمة من الله عز وجل يستحق جنة الله، فاليهود أعطاهم الله كل هذه النعم وكل هذا التفضيل وفي النهاية يستحقون نار جهنم.

يقول الله تعالى: ((فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) فجاءهم العلم وعرفوا الحق، ومع ذلك جحدوا، واختلفوا فيما جاءهم من العلم، وأنكروا ما هو معلوم من دين الله عز وجل، ففضلوا الطمع في الدنيا على الزهد فيها وطلب الآخرة، بعد أن عرفوا التوراة، وعرفوا نبيهم، وحسد بعضهم البعض الآخر على ما آتاهم الله مما في التوراة من العلم.

وكان من أعظم الحاسدين فيهم قارون، قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:٧٦] فكان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فحسد موسى أن آتاه الله عز وجل التوراة، وقد آتاه الله مالاً ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فـ قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، فتكبر على موسى وعلى قومه ومشى مع فرعون وجنوده، وترك قومه؛ تكبراً وحسداً أن آتاه الله المال ولم يعطه التوراة، فاستحق أن يخسف الله عز وجل به الأرض.

فبنو إسرائيل لم يكفروا بالله إلا وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، ويعرفون نعم الله عز وجل، ويعرفون قدرة الله، ومع ذلك كفروا واختلفوا؛ بسبب حسد بعضهم بعضاً على الدنيا.

قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:١٧]، فليس كل من أوتي علماً يكون قلبه تقياً، فالقلوب لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والعلم الذي يظهر من إنسان ليس دليلاً على ما في قلبه، فبنو إسرائيل آتاهم الله عز جل علماً وفضلهم على العالمين، فإذا بهذا العلم ينقلب في قلوبهم حسداً وبغضاً لبعضهم بعضاً حتى أهلكهم الله عز وجل ولعنهم، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨ - ٧٩].

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>