للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيفية التعامل مع الأسرى]

قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد:٤] أي: بعد أن ينصركم الله سبحانه وتعالى، وبعد أن تتمكنوا من أعدائكم، قال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:٤]، حتى لا يكون بينك وبين الكفار قتال، والأوزار: هي الأثقال، مفردها وزر، والوزر: الثقل، قال: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:٤]، أي: حتى يكف الكفار عنكم، إذاً: فقاتل عدوك؛ لأنك إن لم تقاتله فسوف يقاتلك، فإذا استسلم ووضع سلاحه وكف عنك فكف عنه، حتى تضع الحرب أوزارها بشروط كتاب الله سبحانه وتعالى، وما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.

اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:٥] أم أنهما في مواطن مختلفة؟ والصواب: أنها آية محكمة وليست منسوخة، والمعنى: أن المن باق، فتمن على عدوك وتطلقه بغير شيء، أو أنك تفادي العدو بالأسير، فلإمام المسلمين وقائدهم أن يصنع ذلك، لذلك فإن الأكثر ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما على أن هذه الآية محكمة، والإمام مخير.

والأدلة من السنة على ذلك كثيرة ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد من على الكفار في فتح مكة، فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكانوا قد جمعوا أنفسهم لقتاله صلى الله عليه وسلم مرات ومرات قبل الفتح، بل إنهم جمعوا له في الفتح أوباشهم ليقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنصره الله سبحانه، ثم منَّ عليهم صلوات الله وسلامه عليه.

كذلك: جاء عنه أنه قتل البعض ممن كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين، كـ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فقتلوا في يوم بدر؛ لأنهما كانا يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلمان فيه بالكلام المؤذي، ويطعنان في الإسلام والمسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهما بعدما أسرا.

إذاً: إذا كان العدو محارباً لله عز وجل ولدينه، فهو يسبه ويفخر بذلك، فإذا أسر ولم يدخل في الإسلام وبقي على كفره فإنه يقتل، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد من على رجل من هذا الصنف واسمه أبو عزة الشاعر، وقد كان شاعراً يهجو الإسلام ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن له بنات لا يكفلهن غيره، فرحمه النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، فرجع إلى مكة يضحك ويسخر من النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ضحكت على النبي وعلى المسلمين وقلت لهم كذا وكذا، ويحك عارضيه بالكعبة، ويقول: هزأت بالمسلمين وكذا، فلما أسر مرة ثانية بدأ يستعطف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، لا ترجع مرة ثانية تحك عارضيك بالكعبة وتقول: سخرت منه، وأمر بقتله فقتل.

فالغرض: أن حكم الإنسان الذي يسب دين الله عز وجل القتل إلا إذا أسلم فحينئذ يكف عنه، أما إذا بقي على كفره، فللإمام أن يقتله كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في يوم بدر، وفدى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال، وكان رجلاً من كفار بني حنيفة، فجيء به أسيراً، فحبسه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد لينظر في أمره صلوات الله وسلامه عليه.

وكان يمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن فعلى شاكر، وإن تطلب المال فالمال كثير، فخذ منه ما شئت) يعني: إذا منيت فقد منيت على إنسان يشكر لك هذه النعمة، وإذا قتلتني فمن حقك؛ لأني قتلت منكم الكثير، وإذا فاديت وطلبت المال، فعندي مال كثير فاطلب منه ما شئت.

فتركه النبي صلى الله عليه وسلم: (وجاء إليه في اليوم الثاني صلوات الله وسلامه عليه وقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال كما قال في اليوم الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، واتركوه)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم استشعر بلطفه وبرحمته من الرجل طيبة وخيراً، فقال: أطلقوه، فالرجل ذهب فاغتسل ثم رجع مسلماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالمن هنا أتى بنتيجة.

وقد أتى بنتيجة كذلك في أهل مكة، فلما من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وتركهم أسلموا جميعاً، وإذا بهم يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويكونون بعد ذلك من أصحاب الرأي في المسلمين، ويطلق عليهم مشيخة قريش.

فلما من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، دل على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>