للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ذكر قصة معركة نهاوند]

ومن القصص التي ذكرت في التاريخ: قصة فتح نهاوند، وهذه القصة ساقها الإمام الطبري في تاريخه، وساقها ابن حبان وغيرهما، وفيها أن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بعث جيوشاً لفتح نهاوند، وكان السبب في ذلك: أن الكفار أرسلوا إلى ملكهم ملك الفرس يزدجرد يقولون له: إن المسلمين أخذوا الأهواز، وهي بلدة من بلاد الفرس، فغضب، وأرسل إلى كل مكان ليجمع جيشاً عظيماً، فجمع جيشاً في هذا المكان، وكان عدد جيش الكفار نحو مائة وخمسين ألفاً من المقاتلين؛ ليقاتلوا المسلمين.

فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من يذهب إلى هنالك، وكان يريد أن يذهب بنفسه رضي الله عنه، ولكنه استشار الصحابة، ومن ضمنهم علي بن أبي طالب فكانت مشورة الصحابة عليه أنك لو أرسلت إليهم أهل اليمن من المسلمين، فسيزحف أهل الحبشة على اليمن، فيقاتلون أهل اليمن ويأخذون اليمن، ولو أرسلت إليهم أهل المدينة وأنت خرجت بنفسك، فسيتكاثر عليهم الكفار من حولهم، وتضيع المدينة، لكن ابق أنت في المدينة مثلما أنت، واترك أهل اليمن مكانهم، وأرسل إليهم مَن حولهم هناك من أهل الكوفة وغيرها، فأرسل جيشاً كان قوامه ثلاثين ألفاً، ولاحظ الفرق بين عدد الكفار وعدد المسلمين، فالكفار مائة وخمسون ألفاً، والمسلمون ثلاثون ألفاً، يعني: خمس عدد الكفار! فالكفار جاءوا بعدد ضخم جداً، وهم في غاية الغضب وغاية القوة يريدون الانتصار والانتقام من هؤلاء المسلمين، وقد ذكرنا أن الكفار أرسلوا إلى جيش عمر رضي الله عنه يطلبون واحداً يتكلمون معه، فذهب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحصل ما حصل بينه وبين الأمير رئيس الكفار، وكان يريد أن يجلس معه على كرسيه؛ كنوع من الاستهانة به، والتحقير له ولمن معه، وتكلم معهم، فكلمهم بكلام مرعب، فأرعبهم في كلامه، وكان من ضمن ذلك أنه قال: كنا فقراء وكنا عالة وكنا وكنا وكنا، ولكن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا على الحق، واهتدينا بهذا الدين العظيم، ثم جئناكم الآن، وبلغنا أن دياركم فيها السمن وفيها العسل وفيها المال، فلن نرجع إلى التقشف وإلى الفقر الذي كنا فيه حتى نأخذ هذا منكم.

فأُرعب الملك بهذا الكلام الذي قاله، وقال لما رجع: ما تركتهم إلا وقد أرعبتهم، أي: أنه تركهم في رعبهم.

وهؤلاء الكفار الذين خرجوا للقتال طلبوا من المسلمين وقالوا: إما أن نعبر إليكم، أو أنتم تعبرون إلينا، فالمسلمون قالوا: اعبروا، فعبروا إليهم، يقول راوي القصة: فجعلوا يجيئون كأنهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألا يفروا من العرب.

يعني: أنهم جعلوا بينهم عهوداً ألا يفروا من العرب، ولكنهم لم يصدقوا أنفسهم، فعهودهم ليست قوية، فلذلك احتاجوا أن يربطوا بعضهم إلى بعض، فجعلوا كل سبعة في سلسلة، فكان الرجل منهم عليه حديد، وصاروا كأمثال الجبال، ثم جاءوا لقتال المسلمين فقرن بعضهم إلى بعضهم، بحيث يبقوا جملة يقاتلون العرب، ولا يستطيع العرب أو المسلمون أن ينفذوا بينهم.

فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدونا يتركون أن يتتاموا فلا يُعجلوا؟! يعني: أنه كان له وجهة نظر، وكان قائد الجيش النعمان بن مقرن الصحابي الفاضل رضي الله عنه، وكان فيهم حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عن الجميع، فـ المغيرة كان له وجهة نظر، والمغيرة كانت من أذكياء العرب في الجاهلية وفي الإسلام، حتى كانوا يقولون: إنه داهية من دواهي العرب، فرضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد ذكرنا قصته في إسلامه، وذلك أنه ذهب مع مجموعة من الكفار إلى الحبشة فأعطاهم ملك الحبشة هدايا، وأعطاه أقل منهم، فلما كان راجعاً معهم سقاهم خمراً، وقتلهم جميعاً وأخذ أموالهم، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال: هذه أموالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما المال فلا -أي: أنك أخذته غدراً فلا نقبله-، وأما الإسلام فنعم)، فرفض أن يأخذ منه المال، وله قصص وحكايات طويلة تدل على ذكائه وقدرته العقلية الفائقة رضي الله عنه.

فهنا المغيرة لم يكن يعجبه أن الفرس يعبرون إلى المسلمين، وكأنه يقول: كيف نصبر عليهم إلى أن يتجيشوا ويتحصنوا، ثم نقاتلهم؟ ولذا قال: لم أر كاليوم قتيلاً، يعني: أنه سيكون فينا مقتلة عظيمة من هؤلاء إذا تركناهم.

فـ النعمان بن المقرن رضي الله عنه أمر المسلمين أن يصبروا، وقال لهم: اصبروا، لا أحد يقاتل، فحضروا أسلحتكم، واصبروا إلى أن يأتي وقت الزوال، وتهب رياح النصر، قال لهم ذلك لأنه كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإنه كان ينتظر إلى أن يمر وقت الظهيرة ويبدأ في القتال صلى الله عليه وسلم، لكن المغيرة لم يعجبه هذا الشيء؛ لأن الكفار سيرشقونهم بالرماح، وهم قاعدون وساكتون بأمر النعمان بن المقرن رضي الله عنه.

وكان المغيرة يقول: والله! لو أن الأمر إلي قد أعجلتهم، وكان النعمان رجلاً بكاءً، فقال: قد كان الله عز وجل يشهدك أمثالها، فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك.

يعني أنت أهل أن تكون قائد الجيش، وأنت لست أقل من ذلك، وقد كان الله يشهدك أمثالها، ولكن لا يعيق موقفك أنك الآن جندي عندي، وأنك تستحق أن تكون قائداً، ولا تحزن لذلك، وإني والله! ما يمنعني أن أناجزهم إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غدا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهب الرياح، وينزل النصر.

يعني: كان ينتظر إلى أن يأتي وقت صلاة فريضة، فيصلي ثم يقاتل صلوات الله وسلامه عليه، فيأتي النصر من عند الله عز وجل، فقال النعمان بن المقرن رضي الله عنه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفر وأهله، وقال للمسلمين: إني داعٍ فأمنوا، والله عز وجل إذا فتح على يدي إنسان فهذا شيء عظيم جداً، والإنسان يفرح بذلك، والنعمان كان يريد أن يفرح بالنصر إذا انتصر الجيش، ومن ثم يكون هو شهيداً رضي الله عنه.

فقال وهو يدعو ربه: اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وأهله، وذل الكفار وأهله، ثم اختم لي على إثر ذلك بالشهادة.

أي: لا أريد أن أعيش أكثر من هذا، أريد فقط أن تقر عيني بالنصر، والشهادة بعد ذلك.

ثم قال: أمنوا رحمكم الله، قال: فأمنا، قال النعمان: إني هاز لوائي فتيسروا للسلاح، ثم هازها الثانية فكونوا متأهبين لقتال أعدائكم، فإذا هززتها الثالثة فليحمل كل قوم على من يليهم من عدوهم على بركة الله.

يقول: سأهز اللواء، فإذا هززته فاستعدوا، وكل واحد يحضر نفسه للقتال، والهزة الثانية اركبوا خيلكم وجهزوا أسلحتكم، والهزة الثالثة اهجموا على أعدائكم.

وكان الأعداء قبل ذلك يرمونهم بالرماح، وكان المسلمون لا يقومون لهم، وكأن الكفار استقلوا هؤلاء، وظنوا أنهم ناس ضعفاء، فلما حضرت الصلاة وهبت الرياح كبر وكبرنا، وقال النعمان: ريح الفتح إن شاء الله، وإني أرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا، قال: فهز اللواء فتيسرنا، ثم هزها الثانية، ثم هزها الثالثة، فحملنا جميعاً كل قوم على من يليهم.

وكان عدد المؤمنين قليلاً فإنهم كانوا ثلاثين ألفاً، أمام مائة وخمسين ألفاً جاءوا بأسلحة عظيمة جداً أمثال الجبال، وجاءوا متواثقين على أنهم لا يفروا، وكان الكفار واضعين وراءهم حسك الحديد، ففي أول القصة قال: وألقوا حسك الحديد خلفهم، أي: مثل شجر الشوك، ولكنها من الحديد، وأوقدوا ناراً وراءهم، ووضعوا حسك الحديد؛ من أجل ألا يفر أحد، وإذا فروا يقتلهم الحديد.

وانظر إلى حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى القائل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧]، والقائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]، فهؤلاء جعلوا مقتلهم بأيديهم، ووضعوا حسك الحديد وراءهم، وهنا بدأ القتال وثبت الكفار وصبر لهم المسلمون، وكانوا ثلاثين ألفاً أمام مائة وخمسين ألفاً من الكفار، وقال النعمان للمؤمنين: إن أصبت أنا فعلى الناس حذيفة، فإن أصيب حذيفة ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

يقول راوي القصة: فوالله! ما علمت من المسلمين أحداً يحب أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر.

فالمؤمنون لا أحد منهم يريد أن يرجع إلى أهله إلا منتصراً، ولسان حالهم: إما أننا نقتل شهداء، فالجنة أمامنا، وإما أننا نظفر بهؤلاء، فإذا كانت هذه هي النية فمستحيل أن يفر صاحبها، مستحيل أن رجلاً يريد الشهادة فيفر؛ ولذلك ثبت المسلمون في قتال شديد، يقول الراوي: فلم نسمع إلا وقع الحديد على الحديد، ولا نسمع شيئاً، ولا يوجد صوت إلا صوت الحديد على الحديد، والسلاح يضرب في بعضه، حتى أصيب من المسلمين عصابة عظيمة، فلما رأى الكفار أنه يقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين ويقتل من المسلمين والباقي صابرون لا يفرون، لما وجدوا الصبر هذا، جعلوا يفرون، وقتل في المعركة ثلاثون ألفاً من الكفار، يعني: مثل عدد جيش المسلمين كاملاً، قال: فجعلوا ينهزمون، وجعلوا يرجعون ويقع الرجل فيقع عليه سبعة؛ لأنهم كانوا رابطين أنفسهم بالحديد، وهذا مصداق قوله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]، فلولا عون الله لما قدر ثلاثون ألفاً من المسلمين على مائة وخمسين ألفاً أمثال جبال الحديد، فهو نصر من عنده، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧] فجعل كيدهم في نحورهم، وجعل بأسهم بينهم، وجعل تدبيرهم تدميرهم، ودمرهم سبحانه تبارك وتعالى بأسلحتهم.

فالكفار جهزوا حسك الحديد، وأشعلوا النيران و

<<  <  ج:
ص:  >  >>