للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من قصص الصحابة في نصرهم دين الله عز وجل]

إن قصص الصحابة كثيرة في نصر دين الله عز وجل، وقد رأينا كيف أنهم يدعون إلى الله عز وجل في قتالهم لأعدائهم، فإذا أصر أعداؤهم على الكفر قاتلوهم فنصر الله عز وجل بهم دين الله سبحانه.

كان أحدهم يتقدم ويتحنط قبل القتال كما فعل ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار بل خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند قتال مسيلمة الكذاب ومن معه قال لمن معه من التابعين ومن حضر الموقعة: بئس ما عودتم أقرانكم، أن تفروا من أمام هؤلاء! وكان يلبس كفنه، ويريهم أن الذي يتقدم للقتال لا يطلب الدنيا؛ لأن الذي يطلب الدنيا لن يقاتل، بل سيفر ويهرب، فاطلب الآخرة، فقد كان أحدهم يتقدم للقتال في سبيل الله ويقول: واه لريح الجنة، لئن صبرت حتى آكل هذه التمرات إنه لعمر طويل، فيرميها ويتجه للقتال في سبيل الله عز وجل طالباً جنته سبحانه وتعالى.

وهذه قصة في عهد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في فتح نهاوند، ونهاوند من بلاد الفرس فتحها الله عز وجل للمؤمنين في عهد عمر رضي الله عنه، وكان قائد المسلمين في القتال هو النعمان بن مقرن رضي الله تبارك وتعالى عنه، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بكاءً رضي الله عنه، عظيم البكاء من خوف الله عز وجل، وفتح الله عز وجل على يديه وعلى يد المسلمين هذه البلدة التي كانت صعبة وعسيرة.

وهذه القصة يذكرها ابن جرير الطبري في تاريخه ويذكرها ابن حبان في سياق طويل جداً، وهي قصة إسنادها صحيح صححها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وفيها يقول ابن جبير بن حية عن أبيه أن الهرمزان أحد قادة الفرس أسره عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان عمر يريد قتله، فـ الهرمزان أراد أن يشرب ماء وخدع عمر رضي الله عنه بقولة قالها، وذلك لما أتوا له بالماء لم يمد يده إليه، فإذا بـ عمر يقول له: اشرب لا بأس، عمر يقصد أنه لن نفعل بك شيئاً، فالرجل أخذ الماء وشرب فلما أراد عمر قتله قال: لقد أمنتني أي: أعطيتني الأمان، فكيف تقتلني الآن؟ فتعجب عمر وقال: أين الأمان الذي أعطيته لك؟ قال: قلت لي: اشرب لا بأس، فإذا بـ عمر ينظر للصحابة وكان عظيم الورع، فقالوا: صدق أنت الذي قلت له: لا بأس، قال: خدعني خدعه الله.

وأظهر الهرمزان إسلامه، وكان مع عمر، فأراد عمر رضي الله عنه النصيحة من الهرمزان في أمر فارس، وقد كان عمر في غاية الذكاء رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا مانع من أن يأخذ النصيحة ممن كان عدواً له، ولكن يفكر في هذه النصيحة قبل أن يأخذ بها، وهل يقبل النصيحة من عدو؟ فقد يكون أنت تقاتله البارحة، واليوم صار صديقاً لك، لكن العداوة ما زالت موجودة في القلب، فليس معنى أنه في البارحة كان عدواً لك واليوم صديقاً لك أنه دخل في الإسلام دخولاً حقيقياً، فلما طلب عمر من الهرمزان النصحية قال الهرمزان: إن فارس اليوم رأس وجناحان، أي: فارس مثل طائر له رأس وله جناحان، فقال له عمر رضي الله عنه: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بندار واحد من أعظم رؤساء الفرس، فإن معه أساورة كسرى وأهل أصفهان.

قال عمر: فأين الجناحان؟ فذكر الهرمزان الجناحين، والراوي يقول: نسيت المكان الذي ذكره، فقال الهرمزان لـ عمر ناصحاً: اقطع الجناحين توهن الرأس، فقال له عمر رضي الله عنه: كذبت يا عدو الله تريد أن تفل جموع المسلمين وتفتتهم شمالاً ويميناً حتى إذا جاءوا للرأس هُزموا، بل أبدأ بالرأس، فكان عظيم الحكمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، وانظر إلى قوله البليغ، ليس هو الذي يقطع الرأس، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيقطعه، فإذا قطعه الله عنهم، انقطع عنهم الجناحان، فأراد عمر أن يسير بنفسه لقتال الفرس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا بأصحابه رضوان الله عليهم يقولون: نذكرك الله يا أمير المؤمنين أن لا تسير بنفسك إلى العجم، فقد استقرت الدولة في عهد عمر، وكانت دولة الإسلام في عهده أعظم ما يكون.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أر عبقرياً يفري فري عمر) رضي الله عنه، وذلك حين رآه في رؤيا منامية.

فقالوا: إن أصبت بها لم يكن للمسلمين نظام، ولكن ابعث الجنود، فبعث أهل المدينة وبعث فيهم ابنه عبد الله بن عمر حتى لا يقال: عمر قعد وخاف على أهله، قال: وبعث المهاجرين والأنصار لتثبيت المقاتلين من المسلمين.

وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة، حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وهو صحابي فاضل، وذكرنا أنه كان عظيم الزهد كثير البكاء من خشية الله سبحانه، فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم بندار كبير الفرس أن أرسلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلمه، فبعث الصحابة إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان من أذكى خلق الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.

فذهب المغيرة بن شعبة، قال الراوي: وهو رجل طويل أشعر، أي: شعره طويل أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأفتاهم فلما رجع إلينا سألناه فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه.

والعلج بمعنى: الرجل غير العربي، والعلوج يعني: غير العرب، يطلق عليهم ذلك، قال: قد استشار أصحابه في أي شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا أو نتقشف له فنزهده؟ يعني: إذا جاءنا هذا العربي، هل نظهر له أبهتنا وعظمتنا وفرشنا فيخاف منا، أو نظهر أمامه في صورة الزهاد المتمسكين الذين لا حيلة لهم، فيبعدون عنا ويتركونا؟ قالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون من الشارة والعدة، قال: فلما رأيتهم رأيت تلك الحراب والترع يلمع منها البصر، فلما نظر إلى المنظر الذي هم فيه قال: ورأيتهم قياماً على رأس أميرهم أو رئيسهم، فإذا هو على سرير من ذهب، أي: له عرش ضخم جداً من ذهب وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، والصحابة زهاد لا يملكون إلا الثياب الرثة، وقد كان يلبسها رضي الله عنه، قال: ونكست رأسي لأقعد معه على السرير، فدفعت ونهرت، فقلت لهم: إن الرسل لا يفعل بهم هذا! فلما قال لهم ذلك، قالوا: إنما أنت كلب أتقعد مع الملك؟! فقال: لأنا أشرف في قومي من هذا فيكم، فانتهرني وقال: اجلس فجلست، فترجم لي قوله فقال: يا معشر العرب إنكم كنتم أطول الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأقذر الناس قذراًً، وأبعد الناس داراً، وأبعدهم من كل خير، وما كان منعني أن آمر هذه الأساور أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجساً لجيفكم لأنكم أرجاس، فإن تذهبوا يخلى عنكم، وإن تأبوا نبوئكم مصارعكم.

انظروا هنا الافتخار بالنفس والكبر والغرور الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يكون جيفة في القبور، تكبر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم جيف! قال المغيرة: فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: ما أخطأت من صفتنا شيئاً، إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله إلينا رسولاً صلوات الله وسلامه عليه فوعدنا بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله نرى لكم ملكاً وعيشاً لا نرجع منه إلى ذلك الشقاء أبداً، يعني: لن نترككم أبداً سنأخذ كل ما عندكم، فقد كان رضي الله عنه غاية في الذكاء، وكان عظيماً في الكياسة وعظيماً في التكلم رضي الله عنه، واختيار ما يرعب به خصمه، قال: لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل في أرضكم، فقال الرجل لقومه: أما الأعور فقد صدق، هذا الأعور الذي جاءكم قد صدق في كلامه الذي نسمع، قال: فقمت من عنده وقد -والله- أرعبت العلج جهدي.

فهذا واحد من المسلمين يرعب عظيم الفرس قائد هذا الجيش كله! فقال: فأرسل إلينا العلج إما أن تعبروا إلينا بنهاوند وإما أن نعبر إليكم، وكان بين المسلمين والكفار نهر فقال النعمان بن مقرن رضي الله عنه: اعبروا إلينا، قال راوي الحديث: فلم أر مثل اليوم قط، إن العلوج يجيئون كأنهم جبال الحديد، أي: كأني أنظر إلى أعدادهم وعدتهم وكأنهم جبال من حديد، هيئتهم من الأكل والشرب والاستعداد الواحد منهم مثل الجبل، والتروس التي عليه والعدد التي عليه كأنها جبل من حديد.

قال: وقد تواثقوا أن لا يفروا من العرب، وقد قرن بعضهم إلى بعض حتى كان السبعة في قران، أي: ربطوا أنفسهم بسلاسل، كل سبعة مربوطون في سلسلة، بحيث لا يفرون من العرب، وكأنهم جبال مربوطة ببعضها، والعرب أعدادهم أقل من أعداد هؤلاء بكثير، وحدثت المعركة بينهم والحديث طويل نرجئه للغد إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>