للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون)]

قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:٤٥] أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام ومعه أخوه هارون: (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) بالآيات التسع البينات: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والأخذ بالسنين، فالله سبحانه وتعالى أرسل آيات لقوم فرعون، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، وأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد والعصا ليروا آيات الله عز وجل البينات، فكذبوا.

فكان قوم فرعون كلما رأوا شيئاً من الآيات يكادون أن يستجيبوا، ثم يرجعون مرة ثانية إلى التكذيب، فيقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:١٣٤] كلام باللسان، ومجرد ما يدعو لهم موسى ربه سبحانه وتعالى ويكشف عنهم الغم الذي هم فيه سرعان ما يرجعون إلى التكذيب، ويقولون عن موسى: إنه ساحر عليه الصلاة والسلام.

قوله: (وَسُلْطَانٍ) السلطان هو الحجج البينة عندما يناظره فرعون، يقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] فيرد عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:٢٤ - ٢٨].

وفرعون كلامه كله تخريف، أي: كلام ينطق به، فيقول: ما رب العالمين؟ وعندما يجيبه يقول له: أنت ساحر مبين، تتكلم بكلام جنوني، وسندخلك السجن فنجعلك من المسجونين، ولكن موسى يرد عليه بالآيات البينات، وبالحجج الواضحة، يقول: ربنا رب السماوات والأرض.

وفرعون كان يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فهو الذي زعم أنه رب مع الله، وهذه الكلمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، والخلق كلهم يعرفون ذلك مستيقنين أنه لا رب إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يقدر على الخلق والرزق والإعطاء والمنع إلا الرب سبحانه وتعالى، ولم يجادل في ذلك إلا اثنان فقط جعلهم الله عز وجل عبرة للخلق، وهما: النمرود وفرعون، النمرود قال لإبراهيم ذلك: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] تجبر وزعم ذلك، فأحرجه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] ألست تدعي الربوبية فأت بالشمس من المغرب؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:٢٥٨]، فعندما يزعم الإنسان أنه رب لا بد أن يظهر الله عز وجل كذبه ويفضحه، فبهت هذا الإنسان ولم يقدر على الجواب.

وهذا فرعون ذلك الذي زعم أنه رب وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:٣٦]، وقال: {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:٣٨] ويصعد فوق الصرح والسور العالي، ثم ينزل فيقول: لم أجد شيئاً، لا يوجد رب هناك! ومن ثم يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١] انظر هنا إلى هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الملعون! يقول لقومه: انظروا أنا الملك هنا! أليست هذه الأنهار تجري من تحتي؟! كأنه هو الذي أوجد هذه الأنهار، وكأنه هو الذي خلق هؤلاء، فقال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤].

قوم لا عقل لهم، فاستخف بهم وضحك عليهم وخدعهم، فإذا بهم يستجيبون لما يقول ويتابعونه فيما يأمرهم به.

<<  <  ج:
ص:  >  >>