للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)]

قال سبحانه: {سُورَةٌ} [النور:١] أي: هذه سورة عظيمة، {أَنزَلْنَاهَا} [النور:١] أي: نزلت من عند رب العالمين، {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:١] أي: فرضنا عليكم الأحكام التي فيها أن تعملوا بها، وأن تتعلموها، وأن تأمروا بها أنفسكم وغيركم، وغيرها من القرآن مفروض علينا أن نعلم به، ولكن اختصت هذه السورة بهذا التصريح لما فيها من أحكام عظيمة يحتاجها كل الناس، من أحكام الستر والعفاف.

قرأ الجمهور {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:١]، وقرأ ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري (وفرّضناها) أي: نزلنا هذه السورة من عندنا مقطعة في الإنزال، فلم تنزل كلها مرة واحدة، وكأنها مأخوذة من الفريضة، ومنها علم الفرائض والمواريث، بمعنى: تقطيع الأنصباء، فهذا له النصف وهذا له الربع، وهذا له كذا، ففيه تقطيع الأنصباء، ومنها: فرضة القوس التي تكون في آخر القوس ويربط فيها الوتر، فالفريضة كأنها القطعة من الأحكام المأمور أن نعمل بها.

فـ {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:١] أي: قطعناها في الإنزال فنزلت من عند الله عز وجل آيات آيات حتى اكتملت السورة.

وكلمة سورة معناها في اللغة: المنزلة الشريفة، فالسورة مأخوذة من ذلك، أنها جاءت بمنزلة عظيمة، ووقع عظيم في قلوب المؤمنين، ولها القدر العظيم عند الله عز وجل وعند المؤمنين، فسميت السورة سورة لشرفها، وأنها نزلت من عند رب العالمين سبحانه.

قال: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:١] أي: واضحات في دلالتها {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:١]، وكأن المعنى: تتذكرون ما نزل من عند الله، فتعملون بهذا الذي ذكركم به، وكلمة {تَذَكَّرُونَ} [النور:١] فيها القراءتان: قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف (تذكَّرون)، وقراءة باقي القراء: (تذَّكَّرون)، وأصلها: تتذكرون ما نزل من الأحكام فلا تنسوا ذلك؛ لعلكم تعملون بما جاء من عند الله سبحانه.

والتذكر عكس النسيان، والنسيان قد يكون طبيعة في الإنسان، وقد يكون عمداً، فالأول يعذر فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، والنسيان قد يكون بمعنى: معاملة الشيء معاملة المتغافل عنه، وهذا فيه عقوبة على الإنسان، والنسيان يأتي بمعنى الترك كما قدمنا قبل ذلك.

وفي الآية: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:١٢٤ - ١٢٦]، فالنسيان هنا بمعنى: ترك العمل بما فيها، فالذي يتعامل مع آيات القرآن بتغافل عنها، فيرى الآيات أمامه ومع ذلك لا يعمل بما فيها، فقد تعمد الترك، وهو أحد معاني النسيان لكتاب الله عز وجل، وهو الذي يستحق يوم القيامة أن يعامل معاملة المنسي فقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٦] أي: تترك في نار جهنم كالمنسي، وإن كان ربنا لا ينسى شيئاً سبحانه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>