للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب إن كان من الصادقين)]

قال الله سبحانه {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ)) [النور:٨ - ٩]، وهي بالفتح قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها بالضم: (والخامسةُ)، وكأن قراءة حفص عن عاصم: (أن تشهد أربع شهادات، والخامسة معطوفة على أربع شهادات.

وعلى قراءة الجمهور أنه استئناف، فتكون مبتدأ، والتقدير والخامسة في الملاعنة كذا وكذا.

{أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:٩]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع: (أن غضِب الله عليها) على الفعل الماضي.

وقراءة يعقوب: (أن غضبُ الله عليها إن كان من الصادقين)، فيكون لفظ الجلالة مضافاً.

وقراءة نافع: (أن غضِب الله) على أن لفظ الجلالة فاعل، وقراءة الجمهور: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:٩]، على أن غضب مصدر، ولفظ الجلالة مضاف إليه.

وسبب نزول هذه الآية: ما رواه أبو داود عن ابن عباس: أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بـ شريك بن سحماء، وهلال رجل من الصحابة، وقد رجع إلى بيته فوجد امرأته ومعها رجل في البيت، فلم يهيجهما، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، وإلا حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي ببينة على ما تقول، أو يقام عليك الحد.

والحد في القذف كان قد نزل لكن آية الملاعنة لم تكن قد نزلت بعد، فالرجل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر وماذا يعمل معها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة) يعني: ائت بأربعة شهود يشهدون لك على ذلك وإلا فالحد في ظهرك.

فقال الرجل: (يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟!) أي: من أين سيأتي بالبينة؟ قال: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد) وفعلاً نزلت هذه الآية تبرئ الرجل من الحد بهذه الملاعنة، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:٦] الآية حتى قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:٩]، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية وحصلت الملاعنة من الاثنين.

ومما جاء في ذلك ما قاله سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة؟! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح) يعني أنه سيضربه بحد السيف، وصفحة السيف هي عرضه.

ويعني: لن اضربه ضرب تأديب ولكن سأضربه ضرب قتل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الله عز وجل الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

وجاء أيضاً في قصة رجل آخر من الصحابة وهو عاصم بن عدي الأنصاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (جعلني الله فداك، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء؟! وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أنزلت يا عاصم).

وكان عويمر العجلاني -وهو قريب لـ عاصم - يسأل عن هذا الأمر كثيراً، وكأنها مسألة خطرت في قلبه فبدأ يسأل عنها، وقال: سل لي يا عاصم! أي: اذهب واسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيسكت أم أنه يفعل شيئاً، ومن أين يأتي بالشهود على ذلك.

وكرر الرجل كلامه، فذهب عاصم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تسأل عن شيء لم يحصل، فإذا حصل فاسأل، وأحياناً يكون السؤال عن شيء قد سكت عنه الشرع فينزل الأمر بتحريمه، أو يسأل الإنسان عن شيء فيه بلاء فيبتلى بسبب سؤاله، فهذا سأل عن شيء لم يحصل فإذا به هو الذي يبتلى به، فوجد مع امرأته رجلاً، وكأن هذا من شؤم هذا السؤال.

فـ عاصم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الرجل وقال له: إنك لم تأت بخير، لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي قلته، والآخر رجع إلى بيته فوجد الرجل مع امرأته.

وقد نزلت الآية لهذه الأسباب، وإن كان الأقوى أنها نزلت في هلال، ثم طبق هذا الحد على الباقين، كما يذكر بعد ذلك، والله أعلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>