للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:٢٧].

في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى أدباً من الآداب يعلمه للمؤمنين في (حالة إتيانهم) بيوتاً غير بيوتهم، وذلك أنهم يستأنسون ويستأذنون ويسلمون على أهلها، قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧]، فهنا ذكر الاستئذان والتسليم على أهل البيت كما قدمنا قبل ذلك، ثم قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:٢٧]، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:٢٧] وكذلك إذا كان يوجد لك محارم في هذا البيت وأردت أن تدخل فتستأذن أيضاً على الدخول على المحارم، إلا أن تكون الزوجة فهنا لا يجب الاستئذان في الدخول على الزوجة، والعكس الزوجة مع الزوج وإنما هذا الأفضل، فالأفضل أن يستأنس وألا يفزع أهل البيت بأن يدخل فجأة عليهم.

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} [النور:٢٨] يعني: في هذه البيوت إذا لم تجدوا أحداً فيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم.

ومن الآداب أن الإنسان إذا جاء بيتاً واستأنس واستأذن وسلم ولم يرد عليه، وعلم أنه يوجد أحد بداخل البيت فطالما لم يؤذن له فليس له أن يدخل هذا البيت.

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:٢٨]، فالبيوت لها حرمات، فعلى ذلك فليس من حقك أن تدخل بيتاً غير بيتك حتى تستأنس، وتسلم على أهله، ويؤذن لك بذلك.

جاء عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري هذه الآية -يعني: قوله سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:٢٨]- فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع وأنا مغتبط.

قال سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:٢٨].

وهذا أدب آخر من الآداب أن صاحب البيت قد يقول لك: ارجع، سواء كان له عذر في ردك أو لا، فعليك أن ترجع ولا تغضب قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُم} [النور:٢٨] يعني: أطيب وأطهر لكم، فحين رجعت بزكاء نفسك طيب الله عز وجل قلبك، وأعطاك الثواب على استجابتك لأمر الشارع الحكيم.

فانظر إلى قصة المهاجر السابقة الذي أراد أن يطبق الآية على نفسه، ويتمنى أن يستأذن فيقال له: ارجع، فيرجع بهذا الأجر والثواب الذي قال الله عز وجل عنه: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨].

يعني: أنك استجبت لدين ربنا سبحانه، فترجع وقد طهر الله عز وجل قلبك، وجعل نفسك زاكية، وجعل لك أجراً عظيماً عنده.

وهناك فرق بين هؤلاء وبيننا، فنحن إذا ذهب أحدنا إلى آخر فقال له: ارجع، غضب غضباً شديداً، وتألم لذلك، وأما هم فبالعكس تماماً، فهذه الآداب الشرعية لا بد أن نلتزم بها، ودين الله عز وجل يعلم الإنسان المؤمن الذوق، والأدب الراقي، ويعلمه أنه لا يغضب من الحق، وهذا هو معنى الاستئذان فإما أن يسمح لك بالدخول أو لا، فطالما أنك رضخت للإذن فارضخ للجواب.

وقد علمهم الله تعالى في الآية الأخرى كيف أنهم يستأذنون على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى طعام، فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:٥٣]، فالأصل أنه إذا دعاك لطعام أن تذهب في وقت الطعام ولا تذهب قبل ذلك، فإذا كانت الوليمة بالليل فلا تذهب من أول النهار وتنتظر، قال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:٥٣] أي: بعد ما انتهيتم من الطعام فانصرفوا.

وعند الدعوة تذهب على وقتها، فإذا قيل لك: أنا أدعوك للطعام عندي في وقت المغرب، فلا تذهب من العصر.

وهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:٥٣]، فالدعوة يليها الدخول بعد الإذن، ثم إذا طعمت فانتشر، ويقول لنا: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:٥٣] بمعنى: طبخ الطعام ونضجه، ولكن اذهب في وقت نضج الطعام، فتأكل وتنصرف، وهذا الأدب علمه الله عز وجل للمؤمنين هو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره عليه الصلاة والسلام.

يقول الإمام القرطبي: إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير، يعني: الذي يستأذن سواء كان صغيراً أو كبيراًَ، والذي يأذن سواء كان صغيراً أو كبيراً، فصاحب البيت قد يبعث إليك ابنه يحضرك فيكون قد أذن لك في الدخول فتدخل؛ لأنه وكيل أو مبلغ عن صاحب البيت، وسواء كان هذا الصغير دون البلوغ أو فوق البلوغ، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه دون البلوغ وكان يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخدمه، ومع ذلك يستأذن عليه في دخوله، ويجلس معه ثم ينصرف في قضاء حوائج النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:٢٨] يعني: أن الله يراقبكم ويعلم ما تعملون، فإذا راقبكم وعلم ما تعملون فإنه سيحاسبكم عليه يوم القيامة، وكأنه يهدد الإنسان: أنك إذا لم تلتزم بهذه الآداب الشرعية ولم تلتزم بشرع الله عز وجل فالله يحاسبك على هذا الذي فعلت يوم القيامة.

ويكون هذا توعد لأهل التجسس على البيوت, وطلب الدخول على غفلة لفعل المعاصي، والنظر إلى ما لا يحل وما لا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في المحظور.

فتعلمنا من الآيات كيف نستأذن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، ويعلم أصحابه ألا يستقبلوا الباب بوجوههم، ولكن عن يمين الباب أو عن شمال الباب؛ حتى لا تقع العين على ما في الداخل.

ولو أن إنساناً وقف أمام الباب متغافلاً ويقصد أنه إذا انفتح البيت فإنه ينظر إلى داخل البيت، فالله عز وجل يهدده ويقول: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:٢٨]، فيمكن أن يظهر أمام الناس أنه غافل، لكن ما في قلبه يعلمه الله سبحانه.

فمن تجسس على البيوت أو طلب أن يدخل على غفلة من أهل البيت حتى يرى ما لا يجوز له، أو أنه ينظر من خارج البيت إلى ما لا يحل له، فهؤلاء جميعهم الله عز وجل يقول لهم ولغيرهم: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:٢٨].

<<  <  ج:
ص:  >  >>