للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة عما يجوز للمرأة أن تظهره أمام محارمها، وعن الزينة الظاهرة والباطنة، وما لا يحل لها أن تظهره أمام غير محارمها، أمر عباده بالتوبة إليه سبحانه فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١]، فإذا كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقول: (إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، وهو المعصوم الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويعد له في المجلس الواحد سبعين مرة يستغفر فيها، فالمؤمنون مأمورون بأن يتوبوا في كل وقت إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١]، وتوبة العبد سبب للفلاح، فما من إنسان إلا ويبدر منه ذنب من الذنوب كبر أو صغر، جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).

وذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى ما تتعلق هذه الآية أو هذه الجملة به، فذكر النساء وقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:٣١]، فذكر هؤلاء.

وقد يبدو من المرأة شيء من زينتها أمام غير من ذكر الله عز وجل، فكأنه يشير إلى ذلك ويقول: توبي إلى الله عز وجل مما بدر منك سواء كان عمداً أو خطأً، وقد تنكشف المرأة أمام البعض، وتستتر أمام البعض الآخر، وقد منع الله عز وجل من إظهار الزينة إلا أمام من ذكر.

وقد تستصغر إنساناً ولا يكون صغيراً، وقد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ويكون من هؤلاء، فيأمر الله عز وجل بالتوبة إليه، ففي نهاية هذه الآية قال الله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:٣١] يعني: الرجال الذين لا حاجة لهم في النساء: من كبر سن فيه، أو يكون إنساناً مخنثاً خلقة.

فإذا دخل وطلب طعاماً أو سأله ونظر إلى شيء فهنا لا يجب على المرأة أن تستتر استتاراً كاملاً منه، ولكن قد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ثم يبدو أنه من هؤلاء، مثل المخنث الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونقصد بالمخنث الإنسان الذي ليس به حاجة إلى النساء، أو الذي في تركيبه طبيعة النساء، وأما المخنث تطبعاً فهذا ملعون، وفي الحديث: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).

فالإنسان الذي يتكسر في مشيته ويتشبه بالنساء ملعون، والمرأة المترجلة التي تتشبه بالرجال في زيها وفي مشيتها ملعونة.

ولكن لما نتكلم عن المخنث الذي يجوز أن يدخل البيت ويسأل المرأة نقصد به من كان أشبه بالنساء منه بالرجال خلقه.

وكذلك الطفل قال تعالى: {وَالطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:٣١] أي: الطفل الذي لا يميز العورات، أو الطفل الذي لم يبلغ.

فإذا كان الطفل صغيراً جاز للمرأة أن تبدو أمامه بزينتها، فإذا كان الطفل كبيراً وهنا سواء كان ابنها أو غير ابنها، فإذا كان ابن لها فهو ممن دخل في هذه الآية، وإذا كان ليس ابناً لها وكان صغيراً مثله لا يطلع على عورات النساء ولا يفهمها جاز أن تبدو في ثياب مهنتها أمامه، لكن إذا ظن أنه يفهم ذلك وأنه قد قارب البلوغ، وأنه يتكلم بكلام كثير ممكن ينقل أوصاف المرأة للرجال مثلاً فيجب عند ذلك أن تستتر المرأة أمامه، فإن بدا منها شيء فهنا ربنا سبحانه وتعالى يذكر بالتوبة فيقول: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [النور:٣١]، فالإنسان المؤمن يكثر من التوبة إلى الله عز وجل من ذنوبه التي يقع فيها.

وأيضاً هنا ذكر في هذه الآية تحذير للنساء من الضرب بالأرجل فقال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١]، فقد كانت المرأة في الجاهلية تمشي وقد ينكشف شيء من شعرها، أو شيء من صدرها فلا تبالي بذلك، وإذا أحبت إحداهن أن تلفت النظر لبست خلخالاً في رجلها، فإذا مرت بالرجال ضربت برجلها الأرض فيحدث الخلخال صوتاً، فينتبه الرجال لها وينظرون إليها.

وقارن بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم كيف أنها اليوم لا تحتاج إلى الخلخال ولا غيره، فهاهي تمشي عريانة أصلاً، فتلفت نظر جميع من ينظر إليها في الطريق، وأيهما أشد الجاهلية الأولى حين يبدو من المرأة شيء من رقبتها، أو شيء من شعرها وهي تمشي، أو لكي تبين أنها امرأة تسير في الطريق تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال، أم جاهلية اليوم حين تمشي المرأة كاسية عارية في الطريق والكل ينظر إليها؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد تمشي المرأة في الطريق فتضحك بصوت مرتفع ينتبه إليها من ينظر إليها، وقد تتكلم بصوت عالٍ، وهذه هي الحرية التي تطلبها، النساء فتضع إحداهن المساحيق على وجهها أو على جسدها، وهي ألوان تلفت النظر إليها، أو عري فاضح وتهتك أمام الناس، فتهتك ما بينها وبين ربها من ستر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>