للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)]

ذكر الله حكماً ثالثاً في الآية نفسها وهو: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:٣٣]، فالحكم الأول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:٣٣]، والحكم الثاني: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:٣٣] وأمر بإعانتهم على فك رقابهم فقال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣]، ثم ذكر حكماً آخر فقال: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:٣٣]، وهذا الحكم عام وسبب هذا الحكم خاص، والفتيات هنا هن الإماء، وما كان رجل أبداً يكره ابنته على أن تذهب إلى الزنا، بل كان العرب يقتلون بناتهم خوفاً من الوقوع في ذلك، ولم يكن يحدث هذا من الحرائر غالباً وإنما كان يحدث من الإماء، فكان الرجل يملك مجموعة من الإماء، فيأمر الأمة أن تذهب تسافح وتأتي له بأجرة، فنهى الله عز وجل عن ذلك.

وكان سبب نزول هذه الآية في المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه، فقد كان منافقاً كافراً امتلأ قلبه بالكفر والحنق على الإسلام، وأعماله فاسدة، وهذا الرجل كان في الجاهلية من كبار الناس في المدينة، وكادوا يجعلونه ملكاً عليهم لشرفه عندهم، فلما جاء الإسلام وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنه قد انتهى أمره وضاعت رياسته، فانقلب ما كان فيه من أمور خير كان عليها في الجاهلية، إلى شر شديد جداً في الإسلام! فدخل في الإسلام كرهاً؛ لأنه وجد من حوله قد دخلوا في الإسلام، وسيضيع منه الأمر إذا ظل على كفره، وخوفاً من أن يقتل كافراً، فدخل في الإسلام ظاهراً وقلبه ممتلئ بالبغض للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت أعماله شنيعة قذرة، وقد كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويوالي اليهود، ويدافع عن اليهود، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل يهود بني قينقاع دافع عنهم هذا المنافق دفاعاً شديداً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم ولم يقتلهم.

وهناك فرق بين هذا المنافق الكافر المجرم وبين الرجل الأنصاري العظيم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول كان يهود بني قينقاع أولياء له في الجاهلية، وسعد بن معاذ كان يهود بني قريظة أولياء له في الجاهلية أيضاً، فلما جاء الإسلام ومنع الموالاة مع الكفار فـ سعد بن معاذ ترك هؤلاء.

ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم قتل بني قينقاع، إذا بـ عبد الله بن أبي يدافع عنهم دفعاً شديداً، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتقتلهم في غداة واحدة؟! ولم يزل يدافع عنهم حتى تركهم النبي صلى الله عليه وسلم له؛ تأليفاً لقلبه، وليس حباً لهذا الإنسان، عسى أن يصلح حاله، وأيضاً خوفاً من الفتنة؛ لأن أشياعه من الأنصار كثير، فقد كان خزرجياً، والخزرج أهل ود النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل دفاع عن دين الله عز وجل، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم فتنتهم بهذا الرجل المجرم عبد الله بن أبي ابن سلول، فترك له هؤلاء اليهود، وأجلاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.

وأما سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه الذي اهتز عرش الرحمن لوفاته رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ فرحاً بقدومه على ربه سبحانه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم في حصاره لبني قريظة أن ينزلوا على حكمه، رفضوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، وظنوا أنه سيفعل بهم كما فعل المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول بحلفائه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزلهم من الحصن بأمان إلى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، ولما جاء سعد بن معاذ وقفوا يبكون له ويتوددون له، ويذكرونه بأيام الجاهلية، وما كان بينه وبينهم، فقال: آن لـ سعد بن معاذ ألا تأخذه في الله لومة لائم، وحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تؤخذ أموالهم، فقتل في غداة واحدة جميع رجالهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لحكمه: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك).

وهذا عبد الله بن أبي بن سلول المجرم الملعون قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:٨]، يقصد بالأعز نفسه، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لعنة الله عليه، وقد سلط الله عز وجل عليه ابنه عبد الله، وكان رجلاً مؤمناً رضي الله عنه، فوقف بسيفه على أول المدينة ومنع أباه من الدخول؛ حتى يعترف أنه هو الأذل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، ومنعه من الدخول حتى أقر بأنه الذليل لعنة الله عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو العزيز ومن معه من المؤمنين.

فهذا الرجل أهل لكل خيانة، وأهل لكل شر، وأهل لكل فساد، وهو سبب نزول هذه الآية، فقد كان عنده جاريتان، وكان يأمرهما بالزنا ويكرهما عليه، فتخرج الفتاة وتزني وترجع إليه بمال الزنا والعياذ بالله.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن جارية لـ عبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:٣٣].

قال الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣]؛ لأنه لا يتصور الإكراه إلا والفتاتان لا ترغبان في ذلك وتمتنعان منه، وأما إذا كانت الفتاة تطاوع على ذلك فلا إكراه في ذلك، لكن الفتاة كانت مؤمنة، وكانت ترفض ذلك، فكان يجبرها على هذا الزنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يحرم ذلك.

وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] هذا وصف للحال الذي عليه الفتاتان، وليس هذا شرطاً، وليس المعنى: إذا أردن تحصناً فلا تكرهوهن، وإذا لم يردن فأكرهوهن، فلا مفهوم لهذه الآية، ولكن المعنى: والحال أنهما تريدان التحصن والبعد عما حرم الله، وتريدان هذا الإسلام العظيم، وتريدان طاعة الله سبحانه، فلا يحل لكم أن تصنعوا ذلك معهن ولا مع غيرهن، والتحصن بمعنى العفة.

ثم بين الله سبب إكراههم الفتيات على البغاء فقال: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:٣٣]، فالأمر كله من أجل المال، والمنافق لا يشبع من شيء، فهو يريد المال ولو بهذه الصورة القذرة حيث يأمر الفتيات بالبغاء.

وقوله: (لتبتغوا) مفعول لأجله، أي: لأجل أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا، والدنيا أعراض، نقول: جاء للإنسان عرض، والمرض عرض يعرض للإنسان، والعرض شيء لا يدوم، فما أخذته في الدنيا لا يدوم لك أبداً، بل ينفد ويزول، فكل أعراض الدنيا مهما أخذت منها شيئاً، وكذلك ما يعرض لك من مرض ومن أشياء تبتلى بها فإنها لا تدوم، فهؤلاء يبتغون عرض الدنيا، فالله يحذر من ذلك، ويبين أن هذا عرض ليس دائماً، فابتغ ما عند الله من الجنة الدائمة.

وقوله {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] فيها قراءات: قرأها ورش وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر ورويس: (على البغاء ان) بهمزة أولى محققة، وبهمزة ثانية مسهلة.

وقرأها قالون والبزي بالعكس؛ بتسهيل الأولى، وبتحقيق الثانية (على البغآ إن)، ولهما المد أو القصر في ذلك.

وقرأها ورش أيضاً مطولاً لها: (على البغآ إن أردن) فيمد الهمزة الأولى ويمد الأخرى، وهذه قراءة أخرى له في ذلك.

وقرأها أبو عمرو: (على البغا إن)، بحذف الهمزة الأولى وإثبات الثانية فقط.

ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ} [النور:٣٣] أي: يكره الفتاة على الزنا {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} [النور:٣٣]، أي: هؤلاء النساء {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٣٣]، فالمكرهة معذورة في إكراهها، فإذا أجبرها سيدها على ذلك بالضرب أو بالتخويف بالقتل، فهذه مكرهة، فالله يغفر لها، وهذا الذي أكرهها له العذاب الأليم عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>