للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)]

{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:٣٧]، فهذه البيوت فيها رجال وصفهم الله عز وجل بذلك، (رِجَالٌ) وكأنه يقول: نعم الرجال وأفضل الرجال عمّار بيوت الله سبحانه وتعالى، الذين ذكرهم وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:١٨].

فهؤلاء الذين هداهم الله سبحانه وأكرمهم، لذلك فالإنسان المؤمن إذا وجد نفسه يواظب على بيوت الله عز وجل للعبادة، ويكون محباً لبيت الله سبحانه، فليبشر بهذه البشارة التي بشر الله سبحانه بها هنا وفي سورة التوبة.

فذكر هنا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:٣٦ - ٣٧] فكأنه يمدحهم بهذا الوصف، فهم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال.

فهؤلاء الرجال اختصهم الله بأن يعمروا بيوته، فاستحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف: أنهم رجال، يعني: نعم الرجال، وهكذا كما تقول لإنسان: أنت رجل، وأنت تقصد: أنت نعم الرجل، أنت فيك صفات ليست في غيرك.

وكذلك في هؤلاء، وذكر أنهم يعمرون مساجد الله وبيوته فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:١٨].

وبيوت الله هي المساجد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة بنى له الله بيتاً في الجنة) سواء كان المسجد صغيراً أو كبيراً.

قال تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] أي: تشيد ويرفع بنيانها، ليصلي الناس بداخلها.

وترفع أيضاً بمعنى: تطهّر وتعظّم ويرفع شأنها.

فالمؤمن يعظم بيت الله عز وجل، فلا يأتي المسجد من أجل أن يلعب بداخله، ولا يأتي المسجد من أجل أن يؤذي أحداً في بيت الله سبحانه، فلا يجوز الأذى ظاهراً ولا باطناً، وقد يتأذى الإنسان من شيء فتتأذى الملائكة منه أشد من أذى الإنسان.

فيُرفع بيت الله سبحانه فلا يؤذي فيه أحداً، ويطهره من الأنجاس والأقذار، ويعظم بيت الله سبحانه وتعالى.

وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب)، فديار الأنصار كانت كثيرة، فكأن البعض منهم يشق عليهم أن يأتوا إلى مسجد النبي الله صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة ونحوها، فأمرهم أن يتخذوا مساجد في الدور.

والدار: مجموعة البيوت التي تكون متلاصقة في مكان، يعني: يتخذون في أحيائهم مساجد، فيصلون فيها صلاة الجماعة، فإذا كان يوم الجمعة جاءوا فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المساجد أن تطهر وتطيب، فالمسجد مكان يصان عن الأذى، ويطهر ويطيب، فتكون رائحته طيبة.

إذاً: فالإنسان الذي يأتي إلى بيت الله برائحة خبيثة من ثيابه أو من جواربه، هذا قد فعل غير ما أمر الله عز وجل به، لذلك فالإنسان المؤمن يحرص على نظافته، ويحرص أنه إذا جاء إلى المسجد أن يتطيب، وأن يتجمل لبيت الله سبحانه، كما أمر الله سبحانه وتعالى قال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١].

قال تعالى: ((أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)) إذاً: هنا ستبنى المباني، لكن هل المعنى أن ترفع فوق القدر المحتاج إليه فيكون المسجد تحفة معمارية مثلاً؟ لم نؤمر بهذا الشيء، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم المنع من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فجاء في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد) إذاً: فالمساجد أصبحت للمباهاة وليست من أجل الصلاة، بل من أجل أن يقال: مسجدنا أحسن من المسجد الآخر.

وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) وفي رواية: (فالدبار عليكم) وهو بمعنى: الدمار.

والمعنى: أنك مخلوق لعبادة الله سبحانه، فإذا نسي الإنسان هذه العبادة، ونظر إلى شيء آخر غير العبادة، وكل همه أن يزخرف المسجد، وأن يدهن بأصفر وأحمر، وينقش ويزخرف، ويضع صور في المسجد، فإذا دخل الصلاة نقرها كنقر الغراب، فإذا انتبه الإنسان لزينة المسجد، ونسي السبب الذي من أجله بني هذا المسجد، فانتظروا الدمار من الله سبحانه وتعالى، فلم تعد المساجد للعبادة، ولم تعد لذكر الله، بل صارت للمباهاة.

وكذلك في الحديث نفسه قال: (إذا حليتم مصاحفكم) فأصبح هم الإنسان أنه يشتري مصحفاً حسناً؛ من أجل أن يعلقه في السيارة، أو من أجل أن يعلقه في بيته، أو يضعه أمام المرآة حتى يتفرج عليه، لكن لا يفتح المصحف ولا يقرأ فيه شيئاً، مع أن كتاب الله أنزل ليحفظ في الصدور، ويحفظ بالأعمال، فيعمل بما فيه شريعة ومنهاجاً، ويحفظه فيتلوه متعبداً به لله سبحانه، فإذا ترك هذا كله، وأصبح المصحف من أجل أن يعلق في السيارة، أو يوضع في البيت كنوع من الديكور، فانتظر الهلاك والدمار؛ فالمصحف لم ينزل من أجل أن تضعه تحت المخدة وتنام، من أجل البركة في زعمك، أو تضعه على الدولاب ولا يقرأ فيه، وإنما جاء المصحف شريعة من الله عز وجل يقرأ ويتدبر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، فكأن قلب الإنسان الذي لا يقرأ القرآن ولا يتدبر فيه مغلق بقفل لا يفتح؛ لأنه ترك القرآن وراءه.

يقول الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٦ - ٣٧].

قوله: {بِالْغُدُوِّ} [النور:٣٦] أول النهار.

قال تعالى: {وَالآصَالِ} [النور:٣٦] الأصيل: وقت العصر، والمقصد أنه دائماً صباحاً ومساءً وهو في تسبيح وفي ذكر لله عز وجل في الصلوات الخمس وفي غير ذلك.

{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:٣٧] فهؤلاء هم الرجال الذين وعدهم الله سبحانه أن يهديهم، وأن يغفر لهم، وأن يرحمهم.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>