للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)]

يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨].

ذكر هنا موسى، وقد ذكر ربه كثيراً، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون، ولكن منهم من قص الله عز وجل علينا قصته، كالمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم يقصه الله عز وجل لنا.

فبين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، وقد كانت طبيعة بني إسرائيل أنهم لا ينقادون لأحد إلا أن يكون نبياً من عند الله عز وجل يوجههم ويهديهم، فهم مثل الخراف الضالة يحتاجون إلى الراعي دائماً، ولذلك لما جاء المسيح عليه الصلاة والسلام قال: (إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة).

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم رسولاً لكل الأمم، للإنس والجن صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] فموسى تكرر ذكره باعتباره صاحب شريعة، والقرآن شريعة عظيمة، بل أعظم شرائع رب العالمين، وأعظم كتب رب العالمين، وهو المهيمن على ما قبله، والشاهد على ما قبله، والناسخ لكل ما قبله.

وقد أوتي موسى الكتاب، وأوتي التوراة، فكانت أعظم الكتب في حينه، ثم بعد ذلك ظل من بعده من أنبياء بني إسرائيل يحكمون به، حتى بعث المسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فنسخ الله عز وجل بالإنجيل بعض ما في التوراة فأحل أشياء كانت حرمت عليهم، وجاء بأشياء من عند الله سبحانه وتعالى، وجاء بالإنجيل كتاب مواعظ يعظ الخلق به.

فالكتاب الذي يشبه القرآن ككتاب تشريع هو التوراة، فقد كانت التوراة كتاب تشريع، ولذلك كثيراً ما يذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قدوة للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان صاحب شريعة مثلما أنت صاحب شريعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على الرسل، وجعل القرآن مهيمناً على كل الكتب السابقة.

وموسى ذكر في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، ولصبره على بني إسرائيل يدعوهم إلى الله عز وجل، فقد صبر عليهم كثيراً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي به، وإذا أوذي يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨] فذكر هنا موسى وهارون، والتوراة إنما نزلت على موسى، وهارون أمر بأن يحكم بها، وكان نبياً مع موسى.

والفرق بين النبي والرسول: أن النبي يوحى إليه من عند الله عز وجل، ومكلم بالوحي من الله تبارك وتعالى، ومأمور بالتوحيد وتبليغه للناس، وأن ينصح الخلق، ولكن ليست معه رسالة خاصة يدعو الناس إليها.

فكان موسى صاحب رسالة وهي: التوراة، وأما هارون فكان يحكم بالتوراة التي نزلت على موسى، فإذاً: هو ليس صاحب رسالة، ولكنه نبي من عند الله، ويوحى إليه من الله تبارك وتعالى، ومعين لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:٤٨] والفرقان: التوراة، وسميت فرقاناً لأن الله عز وجل فرق بها بين الحق والباطل.

فقد كانت التوراة كتاب تشريع من عند رب العالمين، وتبين لهم الحلال من الحرام، والخطأ من الصواب، وما يفعل وما يترك.

وذكر في الآية: (الفرقان) أي: نصرناه بالتوراة على فرعون وجنوده.

قالوا: لأن الله عز وجل ذكر بعد ذلك: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨] فيكون المعنى: آتيناه النصر، وآتيناه الكتاب من عند رب العالمين.

فعلى هذا القول: يكون الفرقان هو نفسه الضياء، وهو نفسه الذكر من عند رب العالمين.

يعني: التوراة هي فارقة بين الحق والباطل، وهي ضياء من عند رب العالمين، وهي ذكر من عنده سبحانه.

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨]، وذكراً أي: تذكرة للمتقين.

وقد وصف التوراة هنا بأنها ضياء، والضياء فيه نور ولكن فيه إحراق، وفيه شدة، فقد وضعت عليهم الآصار بتعنتهم، والقرآن وصفه الله عز وجل بأنه نور من عنده سبحانه وتعالى، والقرآن وضع عنا هذه الآصار، وما جعل علينا في الدين من حرج، ولكن في شرع بني إسرائيل كان عليهم الآصار وعليهم الأغلال، حتى إن الرجل إذا بال وسقطت قطرة من بوله على ثيابه لم يؤمر بغسله فقط، وإنما كان يؤمر بقرض جسمه الذي أصابه البول بالمقراض.

فلما جاء أحد بني إسرائيل ونهاهم عن ذلك عذب، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في نار جهنم وهو يعذب في النار؛ لأنه نهى بني إسرائيل عن شرع ربنا تبارك وتعالى، فكان عليهم الآصار والأغلال، التي وضعها ربنا سبحانه وتعالى عليهم.

قال سبحانه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧] فما كان على الأمم السابقة من آصار وقيود وأغلال هذا كله مرفوع عنا، وليس في شريعتنا ذلك، فشريعتنا نور من رب العالمين، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨].

قال تعالى: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨] يعني: الذي إن يتذكر بأحكام رب العالمين هو التقي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>