للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من آداب المساجد]

لقد جمع الإمام القرطبي حوالي خمسين عشر خصلة في تعظيم حرمة المساجد، وهي أكثر من ذلك بكثير، ولكن نذكر الملخص الذي ذكره القرطبي رحمه الله، قال من حرمة المسجد: أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، فيلقي السلام إذا دخل المسجد على أقرب الناس إليه، ولا يرفع بذلك صوته فيزعج الآخرين، ويسمع كل من في المسجد؛ لأنه لو رفع كل إنسان دخل المسجد صوته بالسلام ليتأذى الناس بذلك، خاصة وفيهم من يقرأ القرآن، أو يسبح، أو يصلي.

ولذلك قال رحمه الله: إن كان الناس جلوساً، فكأنه احتراز من إزعاج المصلين، حتى لا يشغلهم بالسلام.

ولذلك يقول جابر بن عبد الله: لا أحب أن أسلم على من يصلي، وإن سلم علي أحد رددت، أي: أنه إذا وجد أحداً يصلي لا يقول له: السلام عليكم، ولكن إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة ردّ عليه السلام، وذلك بأن يشير بيده، أو بإصبعه أنه سمع ذلك، ولكن لا يرد بالقول وإلا بطلت صلاته.

فمن آداب المسجد: أن يسلم الداخل على من فيه، فإن لم يكن في المسجد أحد فإنه يسلم كذلك؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:٦١] أي: يسلم بعضكم على بعض، وإذا لم يكن فيه أحد من الناس فإن فيه ملائكة الله عز وجل، فإذا دخل استحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أي: أنه يسلم على نفسه، وعلى من في المسجد من ملائكة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال القرطبي رحمه الله تعالى: إن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ومن آداب المساجد أيضاً: أن يركع ركعتين قبل أن يجلس كما ذكرنا في الحديث السابق.

قال: وألا يشتري ولا يبيع فيه، والمعنى: أنه لا يجوز أن يجري عقد الشراء والبيع أو المساومة على المبيع في المسجد، ولكن لو أن إنساناً اشترى من إنسان شيئاً خارج المسجد، وجاء هذا بالشيء إلى المسجد، وأعطاه له فقط من غير كلام آخر، فهذا جائز؛ لأنه مجرد مناولة، كأن يشتري إنسان كتاباً من آخر خارج المسجد، ثم جاء البائع وأعطاه كتابه داخل المسجد.

وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يبيع أو يشتري في المسجد فقال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) أي: يدعون عليه.

قال رحمه الله: ومن آدابها: ألا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، والغرض أنه لا يؤذي أحداً من المسلمين بشيء في يده، فإذا دخل المسجد ومعه حديدة، أو شيء قد يؤذي به الناس فليتجنب أن يمشي به في وسط الزحمة؛ لكي لا يخدش بحديدته أو ما معه أحداً.

قال القرطبي رحمه الله: ولا يطلب فيها ضالة، وقد ذكرنا من قبل أنه لا يجوز للإنسان أن يعرف فيه ضالة، كأن يقول: وجدت كذا، أو ضاع مني كذا، فمن أراد ذلك فليكن خارج المسجد.

قال: ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، أي: بالكلام عن أمور الدنيا، وإذا رفع صوته فليكن في درس علم أو في صلاة.

وأيضاً: لا يرفع الصوت بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينزعج الناس، ولذلك لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة في رمضان وهم يصلون التروايح خشي أن تفرض عليهم، فلم يصل بهم صلاة التراويح جماعة، إلا مرة أو مرتين، ولم يفعل بعد ذلك، وقال: (خشيت أن تفرض عليكم أو تكتب عليكم).

فكان الصحابة يصلون فرادى، فخرج مرة فسمعهم يصلون، وكل شخص يصلي وحده، ويرفع صوته، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (كلكم يناجي ربه، فلا يرفع بعضكم صوته على بعض، ولا يؤذي بعضكم بعضاً) أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً لا يرفع في المساجد صوت بغير ذكر الله سبحانه، وكذلك إذا كان بذكر الله فلا يرفع بحيث يؤذي الناس بعضهم بعضاً، فإذا كان الناس جالسين في انتظار صلاة الجمعة فلا يرفع الإنسان صوته بقراءة القرآن؛ حتى لا يشغل الذي بجواره، بل يسمع نفسه فقط، أو يسر القراءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة).

والجاهر بالقرآن: هو الذي يرفع صوته، والله تعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:٢٧١] أي: شيء حسن أن تبدي الصدقة، ولكن: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢٧١] أي: أفضل لكم، وكذلك في قراءة القرآن، فالجهر بها بين الناس شيء طيب، لكن من غير أن يتأذى بها أحد من الناس، فإذا كان في رفع الصوت بها أذى فيجب على القارئ أن يخفض صوته، ومع هذا فالإسرار بها أعظم في الأجر إذا كان بين الناس.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>