للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض)]

قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:٥٧]، قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، جاءت بالخطاب وجاءت بالغائب، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، هي قراءة عاصم وقراءة أبي جعفر، أي: يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تظن ولا تحسب أن هؤلاء المشركين يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض.

وأما قراءة ابن عامر وقراءة حمزة: (لا يحسَبن الذين كفروا معجزين في الأرض)، وقراءة باقي القراء: (لا تحسِبَن الذين كفروا معجزين في الأرض)، ففي كل القرآن يقرأ: (تحسَب) عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر بفتح السين، وأما باقي القراء فيقرءون (تحسِب) بالكسرة.

إذاً: أربعة يقرءونها في كل القرآن: (تحسَب) أو (يحسَب) أو (تحسبَن) أو (يحسبَن)، كلها بفتح السين، وهؤلاء هم: ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر، وأما باقي القراء فيقرءون هذه الألفاظ كلها: (تحسِب) و (يحسِب) و (تحسِبن) و (يحسِبن) بكسر السين.

قوله: (لا تحسبن) هي على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي تنصب مفعولين، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ)) أي: هؤلاء الكفار، ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) أي: لا تحسب أنت، فهنا الفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (الذين كفروا) هذا المفعول الأول، وقوله: ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) هذا هو المفعول الثاني لتحسب.

والقراءة على الغائب: (لا يحسبَن) قراءة ابن عامر وقراءة حمزة وقراءة إدريس عن خلف، والمعنى: لا يحسبَن الذين كفروا أنفسهم يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهنا قوله: أنفسهم هو المفعول الأول، و (مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) هو المفعول الثاني.

قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ)) أي: ومعاجزين، يقال: أعجزت الإنسان أو أعجزت الرجل أن يدركني، يعني: بحيث لا يقدر عليه ولا يقدر أن يأتي به، فهؤلاء الكفار وصل غرورهم أن يظنوا أنهم يعجزون الله عز وجل، وأن ربنا لا يقدر عليهم، فهو قال لهم: لا تظنوا هذا الشيء، فأين تذهبون من الله عز وجل والأرض أرضه، والسماء سماؤه؟ فلا ملجأ من الله إلا إليه، فلا يحسبون أنفسهم أنهم معجزون لله عز وجل، وفائتون من الله سبحانه وتعالى في الأرض.

قوله: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)) أي: أنهم لا يفلتون من الله عز وجل، وأنهم إذا ماتوا سيجمعهم من الأرض مهما تفرقوا فيها، وانظروا إلى ذلك الإنسان الذي أمر بنيه وقال: (إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديداً ريحه فذروني في البر والبحر، إن الله إن يقدر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).

فهنا الإنسان ظن أنه إذا عمل هذا الشيء فلن يفلت من الله عز وجل، فأين يذهب من الله عز وجل؟ فالأمر يسير عليه جداً سبحانه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:٢٥] أي: جامعة لما فوقها في الحياة وبعد الممات، فلما مات هذا الإنسان وذروه في البر والبحر جاء أمر الله عز وجل يوم القيامة: يا أرض هاتي ما كان فيك منه، فجمعته الأرض، ويا بحر هات ما كان فيك فاجتمع الرجل، فأحياه الله عز وجل وسأله يوم القيامة، والحديث معروف.

والمقصود أن الإنسان لا يغتر ولا يظن أنه يعجز ربه سبحانه وتعالى، فمهما هرب فالله عز وجل يأتي به، فليتأدب المرء مع ربه سبحانه، وليحسن الظن بالله عز وجل، وليفعل الطاعات، وليعلم أنه مهما هرب فإن الله آت به، ثم يكون مأوى هؤلاء الذين يهربون من الله عز وجل نار جهنم.

قال تعالى: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) فهذا مصير بئيس وفظيع لهؤلاء، فبئس المكان مكان هؤلاء، وما صاروا وذهبوا إليه يوم القيامة وهو النار.

<<  <  ج:
ص:  >  >>