للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (فجعلهم جذاذاً)

قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٥٨].

قال المفسرون: كان لهم عيد في كل سنة يخرجون فيه خارج المدينة للعب والمرح، ويرجعون بعد ذلك إلى أصنامهم، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام انتظر ذلك، فقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:٥٧] أي: بعد أن تخرجوا للعيد سأتجه إلى الأصنام لأحطمها، وكأنهم أرادوا من إبراهيم أن يخرج معهم إلى عيدهم؛ لعله يهتدي بحسب ظنهم وزعمهم، فلما شدوا عليه أن يخرج معهم قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] أي: أنا مريض لا أقدر على أن أخرج معكم، فذهبوا وتركوه فتوجه إلى أصنامهم، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء:٥٨]، أي: كسرهم قطعاً، وهذه قراء الجمهور، وقراءة الكسائي: (فجعلهم جِذَاذاً)، بمعنى: كسراً وحطاماً.

{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء:٥٨] وقد كانت الأصنام مرتبة، فالصنم الأكبر أولاً وبعده الأصغر فالأصغر فالأصغر، وكان القوم لما أرادوا أن يخرجوا أتوا بأطعمتهم إلى هذه الأصنام، من أجل أن تبارك لهم فيها بزعمهم، وتركوا طعامهم عند الأصنام حتى يرجعوا ليأكلوه بعد أن تحل فيه البركة بزعمهم.

وذكر الطبري وابن أبي حاتم عن السدي قال: رجع إبراهيم عليه السلام إلى آلهتهم فإذا هي في بهو عظيم، أي: فناء عظيم أو في صالة عظيمة، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جانب بعض، وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الأصنام يظنون أنها ستبارك لهم فيه، وقالوا: إذا رجعنا وجدنا الآلهة بركت في طعامنا فأكلنا.

فلما نظر إليهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:٩١] يكلم الأصنام ويسخر منها، أي: هم قد وضعوا لكم الأكل من أجل تأكلوا.

{مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:٩٢]، أي: لماذا لا تتكلمون ولا تردون، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:٩٣] فكسر رءوسهم بيمينه، وترك الكبير، وعلق فيه الفأس.

قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٥٨] أي: يتعظون ويقولون: إن هذا الكبير هو الذي كسر الصغار من أجل أن يبقى هو وحده الإله.

فلما رجعوا من العيد ورأوا الأصنام {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٥٩] أي: من الذي عمل هذا بآلهتنا {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٥٩].

{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠] وكأن إبراهيم قال لهم: إني سقيم وسأرجع، وكأنه جهر وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:٥٧] وظن أنهم لم يسمعوه، وقد سمعه بعض ضعفائهم، أو بعض من كانوا حوله، فشهدوا عليه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠] أي: شاباً يقال له إبراهيم قالوا: كان عمره ستاً وعشرين سنة في هذا الوقت.

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:٦١]، يعني: كأن الملك -وهو النمرود - يريد أن يحقق العدالة، فقال: هاتوه وأتوا بالشهود أمام الناس لعل الناس يشهدون عليه، من أجل ألا نظلمه ولا نعاقبه من غير شهادة، فيشهدون بأنهم رأوه وهو يكسر الأصنام.

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:٦١] أي: أمام الناس يرونه، لعلهم يشهدون عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>