للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن، وأنه استعان بغيره على ذلك]

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:٤ - ١٠].

يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب الكفار للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكذيبهم للقرآن العظيم، فقال تعالى حاكياً قولهم: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ) والإفك: الكذب، فهم يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعلمون أنه الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وهم الذين كانوا يلقبونه بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون عنه ذلك، وقد كان هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً، حتى طمأنه ربه سبحانه، فقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣]، يعني: لا يقولون عنك: إنك تغيرت فصرت كاذباً في كلامك، ولكنهم يجحدون بهذا الكلام العظيم الذي جاء من عند رب العالمين.

والجحد للشيء: التكذيب به مع المعرفة بصحته وصوابه، فالإنسان الذي يجحد الحق الذي عليه، وهو يعرف أن عليه حقاً وديناً، وعندما يأتي صاحب الدين يطالبه بحقه فينكر وهو يعلم في نفسه أن عليه ديناً لهذا المطالب، فهذا يسمى جاحداً، والظالمون والكافرون يجحدون ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وهم مستيقنون في أنفسهم أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لا يكذب عليه الصلاة والسلام.

فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} [الفرقان:٤]، أي: كذب، ((افْتَرَاهُ)) أي: اختلقه وألفه، ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي: فليس وحده قال ذلك، وإنما هناك أناس ساعدوه على أن يقول هذا الشيء؛ لأنهم وجدوا في القرآن أخباراً لا يعرفونها، ولا يعرفها إلا أهل الكتاب.

فادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع من أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب هم الذين علموه هذا الشيء، والمراد بقوله: ((قَوْمٌ آخَرُونَ)) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: مجموعة من الناس كـ أبي فكيهة مولى بني الحضرمي وعباس وجبر، وأناس كانوا من النصارى، فقالوا: هؤلاء هم الذين يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبهم سبحانه وتعالى بالحجج العقلية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:٤].

أي: هؤلاء ظلمة كذابون مفترون فيما يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كنتم صادقين في قولكم هذا (فأتوا بكتاب مثله)، أي: هاتوا قرآناً مثله، كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:١٣]، وكما قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣]، إذا كنتم تقولون ذلك، والأدوات عندكم فأنتم أهل اللغة العربية، فإذا كنتم تزعمون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلق القرآن وافتراه فاختلقوا أنتم أيضاً وافتروا وأتوا بمثل هذا القرآن، وإذا كان كما تزعمون قد علمه قوم آخرون فاذهبوا إليهم وتعلموا منهم، وأتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فالأدوات التي يزعمون أنه تمكن بها من الإتيان بالقرآن موجودة عندكم، فأنتم تعرفون اللغة العربية كما يعرف، وأهل الكتاب موجودون، فاذهبوا إليهم وأتوا من عندهم بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فما قدروا على ذلك أبداً، ولن يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي ويأتوا بشيء، والذي قبل منهم هذا التحدي بدأ يخرف، ويقول كلاماً هو تخريف، فيضحك عليه الكفار قبل المسلمين عندما يسمعون ما يقول، فعندما يحاول أن يوزن سورة على مثل سورة العصر مثلاً، أو على مثل سورة الهمزة يؤلف أشياء فيسمعه الكفار ويقولون: والله إنك لتعلم أنا نعلم أنك كاذب فيما تقول، ويسخرون منه، أما أن يقبل أحد هذا التحدي، فإنه لا يستطيع ذلك، وقد قال الله سبحانه: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:٤]، أي: ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وظلموا أنفسهم؛ بأن جعلوا أنفسهم من أهل النار، والعياذ بالله.

{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:٤]، أي: ظلماً من القول ومن الفعل، {وَزُورًا} [الفرقان:٤]، أي: بهتاناً وتزويراً، وتزوير القول هو: أن يأتي بكلام ظاهره الحسن وباطنه القبح والزور، والذي جاءوا به هو كلامهم وقولهم: إن هذا القرآن مختلق ومفترى، وقولهم للناس الذين يأتون من قبائلهم ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعوا منه، فنحن أعلم بهذا الرجل منكم، فهو كذاب وساحر وكاهن ومفتر، فيزورون القول على الناس، ويتهمونه زوراً وباطلاً صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>