للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٤٨ - ٥٢].

في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن بعض نعمه العظيمة على عباده سبحانه.

ومن هذه النعم: أنه أرسل الرياح سبحانه وتعالى بشراً بين يدي رحمته سبحانه، فيستبشر العبد بقدوم الرياح التي يرسلها الله عز وجل، فهي ترطب بدن الإنسان مما هو فيه من حرارة، وكذلك يجعلها سبحانه تحرك السحاب في السماء من مكان إلى مكان؛ لينزل المطر في المكان الذي أراده الله، فيحيي الله عز وجل به الأرض بعد موتها، وهذه من رحمة رب العالمين سبحانه، ويرسل الرياح فتتحرك بها السفن بفضل الله عز وجل وبرحمته، ويحرك بها ما يشاء سبحانه، ويسخرها للعباد يستخدمونها فيما يصنعونه من آلات ومحركات، فقد جعل الله عز وجل الهواء والرياح رحمة منه سبحانه، وقد يقلبها ويصيرها على قوم عذاباً من عنده والعياذ بالله، فالله على كل شيء قدير، يصرف الآيات ويقلبها، فيجعل الرحمة ويأتي بغيرها، من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:٤٨]، والمقصود بالسماء هنا: السحاب التي في السماء، قال تعالى: {أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:٤٨]، والطهور هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهذا أنقى أنواع الماء، ومنه: الماء الذي ينزل من السحاب، وهذا الماء يخرج من الأرض ويكون فيه الطيب والنجس، وقد يكون مالحاً أو مراً أو كدراً، ولكنه يتبخر إلى السماء فلا يصعد إلا الماء النقي، فتتكون منه السحب، فالماء الذي في السحاب أنقى أنواع المياه مطلقاً، فإذا نزل إلى الأرض نزل ورجع إليها ماء نقياً، ولكن قد تعتريه بعض الأتربة والغبار في الجو، وأما وهو في السحاب فهو أنقى أنواع الماء، فإذا نزل على العباد نزل عليهم ماء طهوراً، أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره.

قال الله سبحانه: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:٤٩]، أي: هذا الماء الطهور الذي نزل من السحاب يحيي الله عز وجل به البلدة الميتة، كما قال: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:٤٩]، وقد قرأها الجمهور: ((ميتاً))، وقرأها أبو جعفر (ميِّتاً).

والمعنى واحد، يعني: أن الله عز وجل يحيي بهذا الماء الذي ينزل من السماء الأرض الميتة، أي: المجدبة التي لا زرع فيها، فإذا نزل الماء أحياها الله عز وجل به، فقد جعله سبحانه كالروح للأرض.

قال تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:٤٩]، أي: إما أنه بواسطة هذا الماء تخرج الأرض زرعها، وإما أن تكون الأرض سبخة لا زرع فيها، ولكنها تجمع هذا الماء فيشرب منه الإنسان فقد جعل الله عز وجل الماء سقياً للبشر وسقياً لكل حيوان، وجعله روحاً للأرض، ينبت الله عز وجل به النبات من فضله ورحمته.

وقوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:٤٩]، أي: نسقي هذا الماء، وهو من أسقى الرباعي، ويأتي نسقى من الثلاثي، فيأتي من الاثنين، وفيها في القرآن في غير هذه الآية القراءتان: نَسقي ونُسقي، وأما هنا {نُسْقِيَهُ} [الفرقان:٤٩]، ففيها قراءة واحدة فقط من الفعل الرباعي، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:٤٩]، يعني: هذا المطر نزل من السماء لكل حيوان، فيسقي الله عز وجل به الإنسان والحيوان.

وقوله تعالى: {مِمَّا خَلَقْنَا} [الفرقان:٤٩]، أي: من كل ما خلقنا، فنسقي بهذا المطر {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:٤٩]، أي: بشراً كثيراً، وقوله: {أَنَاسِيَّ} [الفرقان:٤٩]، إما أن واحدها إنسي أو إنسان فيجمع على هذا الجمع، فالله سبحانه وتعالى بفضله وبرحمته يتكرم على عباده بإنزال هذا المطر، وقد يستحق الإنسان هذا المطر وقد لا يستحقه، ولكنه سبحانه لم يمنعه عنهم حتى لا يجدوا شيئاً منه؛ لأن رحمته تأبى إلا أن ينزل المطر، ولكن قد يقلله على قوم ويزيده لأقوام آخرين.

فهو سبحانه ينزل المطر من السماء، وإن لم يستحقه الإنسان استحقته البهائم، فينزل من السماء مطراً ليسقي به هذه البهائم، وينتفع الإنسان، كما قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:٤٩]، وقد قدمها هنا لأنها لا تذنب، وأما العباد فيذنبون فقد يستحقون المطر وقد يستحقون القحط، ولكن الأنعام لا ذنب لها فقدمها، قال تعالى: {ونُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:٤٩]، وقد تكفل سبحانه بالرزق لجميع هذه الأنعام التي عرفت ربها؛ لأن هذه الأنعام التي لا تذنب في حق خالقها سبحانه تستحق أن يأتيها الله عز وجل بأرزاقها، فقدمها على الناس، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:٤٩]، قال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:٤٩]، يعني: قد يُحرم الماء من يشاء سبحانه من الإنس ويسقي الكثيرين منهم، فقال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:٤٩].

<<  <  ج:
ص:  >  >>