للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ملمح من إعجاز القرآن في ذكر حقائق البحار]

ذكر لنا الله من آياته العظيمة فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:٥٣]، ومثلها قوله تعالى في الآية الأخرى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:١٩ - ٢٠]، ولفظ البحرين في الآية الأولى لا يحتمل معناه إلا البحر الملح والبحر العذب، أي: البحر والنهر، وإن كانت الآية الثانية في سورة الرحمن: تحتمل الاثنين أي: البحر المالح والعذب، وتحتمل واحداً وهو البحر المالح، يقول الإمام القرطبي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:١٩]، أي خلا وخلط، وأرسل، وكلمة (مرج) تأتي بمعنى التراكم، وتأتي بمعنى الإختلاط، وتأتي بمعنى دخول الشيء في الشيء، فيكون معنى قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:٥٣]، أي: أرسلهما فأرسل البحر المالح وأرسل البحر العذب الذي هو النهر، ومعنى: خلاه أي: تركه فانطلق النهر إلى أن صب في ماء البحر، وعلى المعنى الثالث {مَرَجَ} [الفرقان:٥٣]، الذي هو خلط، اختلط الاثنان، ولكن سيكون المعنى: اتصالهما لم يجعل البحر يتحول إلى عذب، ولم يجعل ماء النهر يتحول إلى ملح، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان:٥٣]، وسمي ماء النهر عذباً؛ لأن فيه عذوبة وحلاوة، وفيه فرات فهو شديد العذوبة، ذو طعم جميل، ثم وصف ماء البحر فقال سبحانه: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:٥٣]، أي: شديد الملوحة، وقد يكون فيه مرارة مع الملوحة التي فيه، فالأول: شديد العذوبة وهذا شديد الملوحة.

وقد حفظ الله سبحانه ماء البحر بأن جعل الملوحة التي فيه تمنعه من التعفن، وحفظ الكائنات التي فيه بما جعل لها فيه من غذاءً، وما يسر له من تنفس، وحفظ ماء النهر بأن أجراه؛ إذ الماء العذب إذا وقف في مكانه ينتن، وجري ماء النهر يجعله عذباً فراتاً لا يتعفن ما دام جارياً، ومن حكمة الله سبحانه ورحمته بعباده أن حفظ لهم المياه بتلك الأوصاف المصاحبة لها، فلعلمه سبحانه أن ماء النهر عرضة للجراثيم، وعرضة للبكتيريا، وعرضة للأشياء التي تقع فيه، فقد حفظه الله عز وجل بالجريان، فإنه ما دام جارياً لا يتعفن؛ لأنه متغير دائماً، والنهر من المعلوم أنه عندما يصب في البحر، وعندما يصب في البحر يتبخر بفعل حرارة الشمس إلى السماء، ثم تدفعه وتحركه الرياح إلى مصب النهر، فإذا نزل المطر في أول النهر جرى النهر ليصب في البحر وهكذا تستمر دورة بين الأرض والسماء، يحفظ الله عز وجل العباد بهذه المياه وهذه الأمطار، كما يحفظ الله العيون في الآبار بهذه الصورة، إذ أن ماء العيون نابع من مياه جوفية داخلية، وقد جعل الله عز وجل المياه الجوفية على بعد كبير من سطح الأرض، بحيث تكون بعيدة عن نزول الجراثيم إليها، وبذلك يحفظها الله سبحانه وتعالى في جوف الأرض، وهذا من آيات الله العظيمة سبحانه، قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:٥٣]، أي: أرسل البحرين أو جعلهما يضطربان فيختلطان، ومنها أمر مريج، قال تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥]، أي: أمر مختلط مضطرب، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا ثم شبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف أصنع جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة).

فقوله في الحديث: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم)، أي: صار الناس أهل منكر، ولم تقدر على تغيير هذا المنكر الذي من علاماته: أن تبقى العهود كثيرة مختلطة مضطربة، لا يفي أصحاب العهود بشيء منها، وقوله: (خفت أماناتهم)، أي: كثرت فيهم الخيانات، والمعنى: إذا رأيت الناس على هذا الحال وكانوا مختلطين مضطربين لا رأي يجمعهم، ولا دين يوجههم فابتعد عنهم، ما دمت غير قادر على أن تصلح فيهم شيئاً وتخشى على نفسك أن تتغير معهم، وعجزت عن إصلاحهم، أما إذا كان المؤمن يقدر على الإصلاح فيلزمه أنه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى لعل الناس يستجيبون له، وفي الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).

فقوله في الحديث (مرجت العهود)، أي: اختلطت، وكذلك يكون معنى مرج في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:٥٣]، أي: جعلهما يختلطان أو يدخل هذا في ذاك، وهما كما وضعهما سبحانه: قال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:٥٣]، فالفرات: شديد الحلاوة أو شديد العذوبة، والأجاج: شديد الملوحة التي فيها مرارة، ثم قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:٥٣]، قال القرطبي في تفسير البرزخ: أي: حاجزاً من قدرته، فلا يغلب أحدهم على صاحبه، و (حجراً محجوراً) قال: أي: ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، وأمر التقاء البحرين ووجود آخر لم يره الكثير من العرب وخاصة عند نزول هذه الآية، فمن البعد بمكان أن يذهب الناس إلى مصر لينظروا نهر النيل وهو يصب في البحر المتوسط مثلاً، أو غيره من الأنهار وهي تصب في البحار، ولكن الله سبحانه وتعالى يخبر عباده بهذه الآيات العظيمة العجيبة في مدلولها، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:٥٣]، ولم يذكر بحرين معهودين عند الناس كأن يقول مثلاً: البحر الفلاني والبحر الفلاني، بل الآية عامة في كل بحرين يلتقيان، وخصهما في هذه السورة فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:٥٣]، وأطلق في سورة الرحمن فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:١٩ - ٢٠]، فاحتمل البحر الملح والبحر العذب، واحتمل البحران المالحان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>