للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل)

ثم ذكر نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا سابع نبي يذكر في هذه السورة.

قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:٧٦] أي: من قبل لوط ومن قبل إبراهيم، بل نوح هو قبل الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام وبعد آدم.

وقوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:٧٦] أي: أن نوحاً دعا قومه ليل نهار، قال ربنا سبحانه وتعالى على لسانه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:٥ - ٧] ولم يقل: جعلوا أناملهم في آذانهم؛ لتصوير مبالغتهم في إعراضهم وعدم إرادتهم السماع.

ثم قال: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:٧] أي: غطوا وجوههم بثيابهم.

وقال: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:٧] يعني: لا يريدون أن يسمعوه، وأصروا على كفرهم وبعدهم عن الله، واستكبروا استكباراً عظيماً.

قال الله سبحانه هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:٧٦] أي: بعدما دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يقل: قد كفروا فنتركهم، بل صبر فيهم واستمر ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية لما كان الآباء يوصون الأبناء بالكفر وعدم الإيمان، ثم الأبناء يوصون من بعدهم، وهكذا، دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:٢٦] أي: لا تذر على الأرض أحداً من أهلها، لماذا؟ قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٧] أي: ألف سنة إلا خمسين وأنا أدعوهم إلى الله عز وجل وكل الأجيال تنشأ على هذا الفجور والكفر.

وقد فصل الله سبحانه وتعالى أمر نوح في سورة الأعراف وأطال في سورة نوح، وكيف أنه جعل له علامة لقرب أجلهم، تحول التنور، أي: إذا خرج ماؤه فهي علامة على مجيء أمر الله، فاركب السفينة، وعلمه الله صنعها وأنجاه عز وجل بها قال الله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠].

ويأتي الطوفان فيغرق جميع من على الأرض، انفتحت أبواب السماء، وانفتح ما في الأرض من آبار وغيرها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض فأغرق الله سبحانه وتعالى الكفار جميعهم.

وقوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:٧٦] أي: أهله المؤمنون؛ لأن من أهله ابنه ولم ينج كما قال الله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:٤٥] قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] فأهله هنا من معه من المؤمنين.

فنجاه الله وأهله من الكرب العظيم بالدعوة إليه عز وجل والصبر عليها، وفي النهاية كتب له ومن معه النجاة من انفجار الأرض ماء، وتفتيح أبواب السماء بالماء، فهو كرب فظيع جداً، وهو في سفينة، فهو يشعر بكرب من هؤلاء الكفار ومن الجو المحيط به، وفي النهاية ترسو السفينة على الجودي بأمر الله سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:٧٧] أي: نصرناه على القوم؛ لأن (على) تفيد الاستعلاء، ولكن (من) هنا بمعنى (على)، أو يكون الفعل (نصر) مضمناً معنى (انتقم) فتبقى (من) على معناها، فكأن المعنى هنا: (انتقمنا من الذين كفروا) فهو نصر عظيم من الله سبحانه وتعالى، وهو انتقام شديد نزل بهم، ففي الدنيا أغرقوا وفي الآخرة سيحرقون.

وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:٧٧] لو قال هنا: أغرقناهم، فيحتمل أن ينجوا أحد، ولكن (أغرقناهم أجمعين) فيه تأكيد أن الجميع غرقوا في الماء، فلم يبق أحد منهم.

ثم ذكر بعد ذلك قصة داود وسليمان، كما سيأتي إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>