للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:٧٠ - ٧١].

يذكر الله سبحانه وتعالى في آخر هذه السورة الكريمة صفات عباد الرحمن، فمن صفاتهم: وأنهم {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، ومن صفاتهم: أن نفقتهم متوسطة، فلا يسرفون ويبذرون ولا يقترون، ولكن: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:٦٧]، ومن صفاتهم: أنهم لا يقعون في الكبائر، فلا يشركون بالله سبحانه {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨]، والله سبحانه وتعالى يحذر من الوقوع في الكبائر ويقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:٦٨]، فالذي يقع في كبيرة من الكبائر يجد العقوبة من الله سبحانه وتعالى، والآثام هنا: جمع إثم، وقد وضحه ربنا وفسره بأنه: مضاعفة العذاب، فقال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:٦٩]، فمن أشرك بالله سبحانه فالله لا يغفر له شركه إذا مات على الكفر بالله سبحانه، بل هو من أهل النار ويخلد في النار مهاناً، كذلك الذي يأتي كبيرة من الكبائر يستحق العذاب ويخلد في النار، ولكن خلود الموحدين الذي هو دون خلود من أشرك بالله سبحانه وتعالى، فالخلود لمن قتل النفس المؤمنة أو وقع في الزنا أو فعل الكبيرة من الكبائر دون الشرك بالله يخلد في النار إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ولكن الكافر لا يخرج أبداً من النار.

قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٧٠]، فرحمة الله عظيمة وواسعة، قال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٥٦]، فالإنسان الذي يقع في كبيرة من الكبائر دون الشرك، ثم يتوب إلى الله سبحانه، يفتح الله له باب التوبة، فيقول هنا: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٧٠]، يعني: حتى ولو وقع في هذه الكبائر، ثم تاب إلى الله سبحانه وآمن وعمل عملاً صالحاً، إذاً: إذا كان إنساناً مشركاً ووقع في الذنوب والكبائر ثم تاب من الشرك فدخل في الإسلام، فهذه التوبة بدخوله في الإسلام، تجب ما قبلها، فتوبته في الدخول في الإسلام تجب ما كان عليه من شرك قبل ذلك، وفي الحديث: (الإسلام يجب ما قبله).

قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٧٠]، والتوبة ليست مجرد قول باللسان، يقول: تبت إلى الله وهو ما زال يقع في الذنب أو يقع في الشرك، ولكن التائب من الذنب من يندم ولا يعود إلى فعله أبداً، ففي سنن ابن ماجة عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وليس التائب الذي يقع في الذنب ويصر عليه، ولكن التائب الذي ندم على ذنبه وأقلع عنه، واستغفر ربه سبحانه وتعالى وتاب وأناب، وأعاد الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق أخذها من الناس، فهذا هو التائب إلى الله سبحانه، أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم ألا يقع فيه مرة أخرى، ورد الحقوق إلى أصحابها، قال الله سبحانه مقيداً هذه التوبة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:٧٠]، أي: إذا كان كافراً فتاب بأن دخل في هذا الدين، قال تعالى: {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:٧٠]، إذاً: لا بد من العمل الصالح بعد التوبة.

فالذي يعصي ربه ويقول: أستغفر الله، تبت إلى الله، وهو ما زال مواقعاً للذنب هذا لم يتب توبة حقيقية؛ لأن التوبة كما يقول ربنا سبحانه أن يتوب ويؤمن ويعمل عملاً صالحاً حتى يبدل الله سيئاته حسنات، قال سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٧٠]، وفضل الله عظيم، وهو الذي يملك أن يحول قلوب عباده من معصية إلى طاعة، ومن كفر إلى إيمان، فقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ} [الفرقان:٧٠]، يعني: التائبين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠]، وتحتمل معان تحتها، يعني: بعدما تابوا إلى الله وعملوا صالحاً يلهمهم الله عز وجل الحسنات فيعملونها فيبدل ما قد كانوا اقترفوه من إساءة وفواحش وكفر إلى إيمان وإحسان وطاعة، فالله يبدل في الدنيا أعمالهم من أعمال سيئة رديئة إلى أعمال حسنة صالحة، ويقول بعض أهل العلم ومنهم الحسن: قوم يقولون: التبديل في الآخرة وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور، والجزء الثاني من كلام الحسن صحيح، وهو أن الله يبدل في الدنيا سيئات هؤلاء حسنات، ولا مانع من أن يبدل في الآخرة أيضاً كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، إذاً: الإنسان يتقي الله سبحانه، وإذا وقع في السيئة فليتبعها بالحسنة، فإن الحسنة تمحو هذه السيئة، فإذا تاب العبد إلى الله وعمل صالحاً فالله يمحو العمل السيئ بهذا العمل الصالح الذي عمله، وقد جاء من فضل الله عز وجل ومن رحمته ما هو أعظم من ذلك، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من عصاة الموحدين هو آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، فهو قد دخل النار وعذب فيها، ولكن نفعه توحيده وقوله: لا إله إلا الله، إذ كان يصلي في الدنيا، ولكن وقع في معاص أوبقته، ووقع في كبائر استحق بها أن يدخل النار وأن يخلد فيها إلى ما شاء الله سبحانه، ولكن أخرجه الله عز وجل بعد ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها)، فالله عز وجل يقول للملائكة بعد أن دخل هذا العبد النار وخرج منها بفضل رب العالمين سبحانه: هاتوا له كتاب أعماله واعرضوا عليه هذه الذنوب.

فهذا العبد وقع في كبائر الذنوب، ووقع في صغائر الذنوب، فاستحق النار بسبب ما وقع فيه من الذنوب، ثم أخرجه رب العالمين من النار، قال: (اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه)، فهو صاحب كبائر وصغائر، فالله عز وجل لما رحمه وأخرجه من النار وجاز الصراط أراد أن يزيده من فضله سبحانه، فقال للملائكة: (اعرضوا عليه كتاب الأعمال)، أي: اخفوا عنه الكبائر وأروه صغائر الذنوب، فنظر الرجل ولم ينكر أنه فعل هذه الذنوب، يقول: (وهو مشفق من كبار ذنوبه)، أي: خائف ألا يفضح أيضاً بكبار ذنوبه، قال: (وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة)، يعني: أنت ما كنت تستحق شيئاً من الحسنات بل استحققت النار، فأخرجناك وجاوزنا بك الصراط، والآن سنعطيك، فهذا العبد عرضت عليه صغائر الذنوب، فلما رآها خاف وأشفق أن تعرض عليه الكبائر، فإذا بالله عز وجل يستر الكبائر ويريه هذه الصغائر، ثم يقول: سنبدل مكان كل صغيرة حسنة من الحسنات، فلما رأى الرجل ذلك إذا به يطمع فيقول: يا رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، قال: (فضحك النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى بدت نواجذه)، فقد كان مشفقاً من كبائر الذنوب، وإذا به يذكرها لما رأى أن الله يبدله.

فهذا الحديث الذي في صحيح مسلم فيه: أن الله بفضله وبكرمه يبدل يوم القيامة لبعض الناس، أو للتائبين من الناس، أو لمن يشاء من خلقه سبحانه ذنوبهم إلى حسنات ويعطيهم أجراً، وهذه الآية تدل على أن هذا الذي بدلت سيئاته حسنات قد تاب إلى الله سبحانه، والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها)، إذاً: معناه: هذا دخل النار ومكث فيها ما شاء الله عز وجل، ثم أخرجه الله من النار وأدخله الجنة برحمته، وليدخله الجنة هو فمحتاج لحسنات، فإذا بالله يبدل صغائر ذنوبه إلى حسنات ويدخله الجنة برحمته سبحانه وتعالى.

حديث آخر رواه الطبراني بإسناد رجاله ثقات وفيه: أن رجلاً كنيته أبو طويل قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟)، فهو رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في ذنوب كثيرة وما ترك لا حاجة ولا داجة إلا وقع فيها، والحاجة: الذنوب التي تختص بالحجيج، أي: سرقة الحجيج، وهي مصيبة من المصائب، فهو يقطع على الحجيج طريقهم، ويسرق أموالهم، ثم أدركته التوبة فتاب إلى الله سبحانه وذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟)، يعني: كأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>