للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)]

قال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:٧٧]، هذا الإنسان لا يساوي شيئاً وما يعبأ به ربه سبحانه، ويعبأ من العبء: وهو الثقل، يقال: هذا يحمل عبئاً يعني: ثقلاً وكلفة وشدة ومشقة، فما الذي يشق على الله سبحانه وتعالى من هذا الإنسان الضعيف الحقير الذي كان نطفة، وكان علقة، وكان مضغة، وكان لا شيء، كان تراباً ثم صار هذا الإنسان ثم يرجع إلى التراب؟! فما الذي يكون من هذا الإنسان حتى يشق على الله سبحانه وتعالى؟ {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) [الفرقان:٧٧]، يعني: لا يعبأ بكم الله سبحانه وتعالى شيئاً، ويحتمل أن يكون المعنى: أي عبء يعبئه بكم ربي وتتعبونه به؟ لا شيء، فهو لا يبالي بكم سبحانه، فإذا أدخلكم الجنة أو أدخلكم النار فلا يبالي، وجنة الله رحمته سبحانه، ونار الله غضبه وعقابه وعذابه، فإن أدخل الخلق كلهم الجنة فلن ينقص شيئاً، ولن يكلف الإنسان ربه شيئاً، ولو أدخلهم كلهم النار فلا يقدرون أن يدفعونها عن أنفسهم، فما الذي يعبئه سبحانه؟ ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:٧٧]، يعني: لا يبالي بكم ربكم سبحانه لولا دعاؤكم إياه، وكأن الخطاب هنا لجميع الخلق، والتخصيص بالدعاء للمؤمنين أو التعميم، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه هدى هؤلاء المؤمنين، فإذا بهم يدعون الله، أي: يوحدونه سبحانه، ويطلبون منه وحده لا شريك له الخير ويسألونه، الجنة، فبدعائهم استحقوا أن يكرمهم الله سبحانه.

فالمعنى: لا يعبأ الله بالخلق جميعهم لولا دعاء هؤلاء المؤمنين، وتوحيدهم ربهم سبحانه، فاستحقوا أن يكرمهم وأن يدخلهم الجنة، ومن رحمته أنه يدعوكم إليه، وأنه لا يعذب الخلق حتى يبعث رسولاً، قال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، فالله عز وجل لا يشق عليه أن يرسل الجميع النار، ومن الذي سيعترض على الله سبحانه وتعالى؟ لكن قد قضى برحمته سبحانه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولاً، فأنزل الكتب وبعث الرسل، وجعل من الناس الشقي والسعيد.

إذاً: المعنى: قل ما يعبأ بكم ربي -أيها الخلق- لولا أنه كتب على نفسه الرحمة، وكتب على نفسه ألا يعذب أحداً حتى يحذره، وحتى يرسل الرسل، وينذر الخلق، فما يعبأ بكم ربي لولا أنه أرسل إليكم الرسل فتدعونه سبحانه.

ومعنىً آخر وهو: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان:٧٧]، أيها المشركون! لولا أنكم تدعونه في وقت الضراء، فالمشركون كانوا يشركون بالله في السراء، فيدعون بعلاً أو يدعون اللات والعزى، فإذا وقعوا في الضراء وفي الشدة وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، فطلبوا منه وسألوه، فالله عز وجل تركهم في الدنيا يعيشون بسبب هذا الدعاء الذي دعوا به ربهم سبحانه وتعالى، ولكن في الآخرة يكون في الجنة المؤمنون الموحدون، وفي النار المشركون العصاة.

وقوله سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:٧٧]، أي: أيها المشركون! قد كذبتم فاستحققتم العذاب، فسوف يكون هذا العذاب لزاماً، أي: ملازماً لكم لا يفارقكم أبداً، وسيكون جزاء تكذيبكم ملازماً لكم.

عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قد مضت البطشة والدخان واللزام.

وكأنه يقول: إن اللزام: هو العقوبة في الدنيا، وهو ما كان في يوم بدر لهؤلاء المشركين من أن الله هزمهم فعذبهم في الدنيا فصاروا إلى النار، واللفظ يحتمل أكثر من هذا المعنى، فاللزام العقوبة سواء في الدنيا أم في الآخرة.

نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً نافعاً، وأن يجعلنا من عباد الرحمن.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>