للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا إنا كنا ظالمين)]

قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:٤ - ٥].

((وكم من قرية أهلكناها)) أي: أردنا إهلاكها ودليل ذلك سياق الآية: ((فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)) فلو كانت كلمة (أهلكناها) تعني أن قد أهلكناها؛ لكانت أهلكت بالفعل وانتهت، لكن المقصود هنا: أردنا إهلاكها بسبب أنهم خالفوا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو المشار إليه في الآيات السابقة.

((فجاءها بأسنا)) أي: فجاء أهلها عذابنا.

((بياتاً)) أي بائتين في الليل، والبيتوتة: الدخول في الليل، يعني أهلكناها ليلاً قبل أن يصبحوا.

((أو هم قائلون)) يعني: نصف النهار، لأن هذا وقت القيلولة، كقوم شعيب، والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له، ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة، وكل ذلك وقت الغفلة، والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار، كأنهم قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة، ونظيرها قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:٩٧ - ٩٨] إلى آخر الآية ثم بعد ذكره تعالى لعذابهم الدنيوي أتبع ذلك ببيان عذابهم الأخروي، فقال عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:٦].

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:٤]: خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أهلك كثيراً من القرى؛ بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً يعني: ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، يعني: فاحذروا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثلما أنزلت بهم.

أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:١٠]، وقال عز وجل: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:٤٥]، وقال عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:٥٨]، وقال أيضاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:١٠] فقوله تعالى بعدها: (وللكافرين أمثالها) بيان للغاية التي من أجلها سيق هذا الأمر، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:١٠]، فبعد أن يبين أنه يريد من هذا تهديدهم قال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:١٠] يعني: إن فعلتم مثلهم كانت لكم نفس العاقبة.

وقد هدد تعالى أهل القرى بإتيان عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحىً في حالة اللعب، قال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:٩٧ - ٩٨] وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:٤٥ - ٤٧]، ومعنى (معجزين): فائيتن، أي: لن تفوتوا ولن تهربوا من عذاب الله سبحانه وتعالى.

وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:٥]، فهذه القرى الكثيرة التي أهلكها الله في حال البيات أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين، أوضح هذا المعنى في قوله عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:١١ - ١٢]، يركضون: أي يحاولون أن يهربوا منها {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:١١ - ١٥]: يعني: جعلوا يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، حتى استأصلهم العذاب.

قال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى: في هذه الآية دلالة واضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، قال الراوي: قلت لـ عبد الله بن مسعود: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ((فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)) يعني: هذا العذاب نحن نستحقه عن جدارة واستحقاق، وليس ظلماً من الله سبحانه وتعالى، بل نحن الظالمون، فلا يهلكهم الله حتى يصرحوا هم بأنفسهم أن هذا بسبب ظلمهم.