للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حياة البدن بالعافية وحياة القلب بالإيمان]

قال: والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك، فليست حياة الذي يحيا حياة ضنكٍ مثل حياة المعافى من هذا الضنك.

ثم قال: وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل، فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم.

يعني: كما أن البدن إذا كانت الشبكة العصبية فيه سليمة فإنه إذا أحس بوخزة دبوس أو بنار تلسع يتألم؛ لأن الشبكة العصبية سليمة، لكن لو أن الشبكة فيها قطع، أو فيها فساد، فممكن أن لا يتألم الإنسان، وقد تدخل فيه الشوكة أو المسمار ولا يحس بذلك؛ لضعف الحياة فيه.

فالبدن كلما كان أتم حياة كان إحساسه بالشيء المؤلم والضار أكثر من غيره، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم، وكذلك القلب إذا بطلت حياته بطل تمييزه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:٢٩]، فطاعة الله وطاعة الرسول عليه والسلام لها ثمرة، وهي أن يلقي الله في قلبه نوراً يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، ولا يقع في الشبه والضلالات والوساوس.

فكلما زادت حياة الروح بالقرآن وبالعلم النافع ازداد اتضاح الأمور أمامه، فيرى الأبيض أبيض والأسود أسود، والتميز بين الحق والباطل يكون حداً فاصلاً بدون اختلاط، فإذا بطلت حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار.

يعني: إما أن يفقد حياة القلب تماماً فبالتالي لا يميز، كحال الكفار، فالكافر لا يمكن أن يرى الحق، وإما أن يكون عنده تمييز، لكن ليس عنده همة بأن يؤثر النافع على الضار وقد علم النافع من الضار، كما أن الإنسان لا حياة له، حتى ينفخ فيه الملك -الذي هو رسول الله- من روحه.

وهنا في الحقيقة تعبير من أروع تعبيرات الإمام الجليل ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وخلاصة الكلام أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يلخص هذا الكلام الذي ذكرناه كله في أن الإنسان إذا أراد أن تتم حياته واستنارته فلابد أن يتوقف هذا على نفختين: نفخة من الرسول الملكي، ونفخة من الرسول البشري عليه الصلاة والسلام.

ويقصد بالنفخة من الرسول الملكي: نفخة الملك عندما يأتي الجنين في بطن أمه وينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات، كما هو معلوم، فهذه النفخة تحدث للإنسان حياة البدن الدنيوية، وهذه الحياة هي الحياة البهيمية؛ لأنها مشتركة بين الكائنات كلها، وبين المؤمن وبين الكافر.

وحتى تتم له حياة القلب لابد من نفخة من الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤمن به، ويتبع هديه صلى الله عليه وسلم، فتتم له الحياتان هنا.