للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى)]

ثم يقول تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:٤٢].

قوله: ((إذ أنتم)) هذا بدل من ((يوم الفرقان)) في قوله: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:٤١].

والمعنى: ((إذ أنتم)) يا معشر المؤمنين ((بالعدوة الدنيا)) يعني: الوادي الذي حده وشفيره أقرب إلى المدينة.

وقوله: ((وهم)) أي: المشركون أبو جهل وأصحابه ((بالعدوة القصوى)) يعني: بوادٍ آخر قاصٍ في الجهة الأخرى، فهو أقرب إلى مكة وأبعد من المدينة، فالعدوة القصوى هي البعدى عن المدينة مما يلي مكة.

وقوله: ((والركب أسفل منكم)) أي: العير التي فيها أبو سفيان بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، فإنها كانت أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر.

ومن لطائف الزمخشري في استخراج إعجاز وأسرار القرآن الكريم أنه قال هنا: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ أي: ما الفائدة التي نجنيها من هذا التوقيت بقوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) يذكرهم بيوم الفرقان، (يوم التقى الجمعان) ثم قال: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) ذكر المكان (وهم بالعدوة القصوى) ثم قال: ((وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) قال: قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه وتعالى.

فذكرهم بهذه الأحوال كلها ليعلمهم أن الأسباب المادية كانت مع المشركين، فكانوا أولى بالنصر من حيث الأسباب الظاهرة.

أما أنتم أيها المسلمون! فكنتم أولى بالهزيمة، فإذا كان الله قد نصركم فهذا ليس بكسب منكم، وإنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى، فقد كان العدو شديد القوة شديد الشوكة من حيث العدد والعدد المتكاملة، ومهدت له أسباب الغلبة، وأيضاً المسلمون لم يخرجوا للقتال، فلذا كانوا قلة في العدد، وكانوا في ضعف، وكانت غلبتهم في مثل هذه الحال ليست أمراً عادياً، وإنما هو من أعاجيب صنع الله سبحانه وتعالى، ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحول الله وقوته وباهر قدرته.

يقول: وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار- أي: أرض مسترخية لينة- تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة.

فالعدوة القصوى التي كان فيها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً متماسكة لا بأس بها، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم؛ لأن العير كان فيها الأموال وفيها النساء، وكانت العرب تخرج إلى الحرب بالنساء وبالأموال؛ حتى يكون ذلك نوعاً من المدد المعنوي في الحرب، فتشتد حميتهم؛ لأنهم إذا هزموا سيتعرض النساء للأسر، ويصرن سبايا، فكانوا يصحبون معهم في حروبهم في مؤخرة الجيوش الأموال والنساء؛ ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على النساء على بذل جهيداهم في القتال، ولا يتركون وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم؛ لأنهم لو كان أولادهم ونساؤهم وأموالهم في المحلة التي خرجوا منها ربما زين لهم ذلك الفرار من القتال والرجوع إلى ما ينحازون إليه من الأموال والأهل، فإذا كان معهم أهلوهم وطنوا نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، وبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم.

وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر واقعة بدر؛ ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:٧]، ولم يبين هل هي العير أم هي الجيش؟ فإنهم خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبَّب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عنها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان.

قال الناصر في الانتصاف: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.

ثم قال تعالى: ((وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) يعني: لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، أي: لأنكم قلة تخشون أن يستأصلوكم فثبطتكم هذه القلة وكثرة الأعداء بالنسبة إليكم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله سبحانه وتعالى وسبب له.

وفي حديث كعب بن مالك قال: (إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد).

وعن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء؛ حتى التقى السقاة، ونهد الناس بعضهم إلى بعض.

وقوله تعالى: ((وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)) يعني: ولكن جمع الله بينكم على غير ميعاد ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم.

وقوله: ((كان مفعولاً)) يعني: كان حقيقاً بأن يفعل، وقيل: (كان) بمعنى صار.

أي: ليقضي الله أمراً صار مفعولاً بعد أن لم يكن.

وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) أي: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم، ويرفع حجة الحق على الباطل؛ ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئدٍ يهلك من هلك، يعني: يستمر في الكفر من استمر فيه ((عن بينة)) أي على بصيرة من أمره أنه مبطل؛ لقيام الحجة عليه.

وفي هذا إشارة إلى أن نصر المؤمنين في بدر كان منه سبحانه، فمع أن الأسباب الظاهرة كلها كانت في كفة المشركين نصر المسلمين على قلتهم وضعف عددهم وعددهم، فهذه آية وحجة لتثبيت الحق في قلوب المؤمنين.

ومن الحكم أيضاً: ((ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)) وهو نصرة الإسلام وإعزاز أهله وإذلال المشركين.

وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)) يعني: ليهلك بالبقاء على الكفر، فمن رأى هذه الآية -وهي نصر الله للمؤمنين مع قلتهم وضعفهم- فينبغي أن يسلم لله سبحانه وتعالى، فإذا اختار البقاء على الكفر والاستمرار عليه فقد قامت الحجة عليه، ولا عذر له في استمراره على الكفر الذي سيئول به إلى الهلكة في الدنيا والآخرة.

وقوله: ((وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))، عبر عن الإيمان بالحياة، يعني: ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان في وقعة بدر آيات بينة، فمن كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.