للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)]

قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩].

(ومنهم من يقول ائذن لي) في القعود، (ولا تفتني) أي: لا توقعني في الفتنة.

روي عن مجاهد وابن عباس: أنها نزلت في الجد بن قيس أخي أبي سلمة، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في الاستعداد للجهاد: (هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟! -يعني: في جهاد بني الأصفر وهم الروم- فقال: يا رسول الله! أوتأذن لي ولا تفتني؟ عافني من ذلك، ائذن لي ألا أذهب ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد أذنت لك).

قال الشهاب: كان يخشى العشق لهن، أو مواقعتهن من غير حل.

وبنو الأصفر هم: الروم، وقيل في وجه التسمية وجوه، منها: أنه ملكهم بعض الحبشة فتولد بينهم أولاد ألوانهم ذهبية.

والجد بن قيس هذا من بني سلمة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوأ من البخل؟! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض؛ بشر بن البراء بن معرور).

((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) قال أبو السعود: أي: في عينها ونفسها، فرغم أنهم يخافون الذهاب لجهاد الروم فيقعوا في الفتنة، والذي فعلوه هو نفسه الفتنة وعينها.

قال: وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به.

(سقطوا) لا في شيء مغاير لها، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً منها.

يعني هذا القعود وهذا التخلف ليس مهرباً أو مخلصاً من الفتنة، وإنما هو عين الفتنة التي يزعمون أنهم يريدون أن يهربوا منها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الاعتذارات الكاذبة.

وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ (من) - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩]- وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه مع تقديم الظرف - (ألا في الفتنة) - إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجىً من الفتنة، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن.

وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين.

((وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)) أي: يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا.