للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)]

قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:٧٣].

(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف، يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، مع أن ظاهر الآية يقتضي مقاتلتهم جميعاً بالسيف، مع أن المنافقين غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فبما أنهم لا يظهرون الكفر وإن كانوا كفاراً في الحقيقة، بل شر من الكفار؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولكن مع أنهم يظهرون الإسلام فقد فسر الآية السلف بغير ظاهر الآية؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام، وأحكام الدنيا تجري على من يظهر الإسلام من الناس، فمن ثم فرق السلف في تفسير هذه الآية بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين، وقالوا: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بالحجة واللسان، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٥٢] يعني: بالقرآن الكريم وبحججه؛ وذلك بناءً على أن معنى الجهاد هو: بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان هذا الدفع بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في هذه الآية.

إذاً: المنافقون يكون جهادهم بإقامة الحجج عليهم، ويتنوع هذا الجهاد إما بإقامة الحجة، وبإظهارها عليهم، أو بترك الرفق بهم، أو بالانتهار، أو بزجرهم ونهرهم، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجب هذه الحدود، وهذا روي عن الحسن في تفسير الآية.

ورد على هذا التفسير، وهو: أن جاهد الكفار والمنافقين بإقامة الحدود: لا يلزم أن الإنسان إذا كان يفعل شيئاً يستوجب الحد أن يكون منافقاً، يعني لا تختص إقامة الحدود بالمنافقين لكن من عصاة المسلمين أيضاً من يأتي بموجبات إقامة الحد.

فأجاب الفريق الذي قال بأن تفسير الآية هو إقامة الحدود عليهم بأن الحدود في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت على المنافقين.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كاملاً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، فالنفاق الأكبر يتعلق بكتمان الكفر في القلب، ولا يتعلق بالأفعال أو المعاصي التي يظهرها الإنسان، وأخبار المحدودين -الذين أقيم عليهم الحد- في زمن البعثة يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.

فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين ظهر أصحابه فلم يقتلهم مع أنهم شر من الكفار؟ ف

الجواب

أنه إنما أمر بقتال من أظهر بلسانه كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا اطلع على كفره أنكر وحلف، وقال: إني مسلم؛ فإنه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره.

فالقتال هو قتال الكافر الذي يظهر كلمة الكفر، لكن إذا وجد شخص اطلع على أنه قد قال كلمة الكفر، ثم عند المواجهة ينكل عن ذلك، ويقول: ما فعلت، وما قلت، ويحلف الأيمان المغلظة كما هو شأن المنافقين، وأنكر أن يقع منه كفر، وقال: إني مسلم؛ فيعمل حينها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقبل ظاهر أمره ولا يبحث عن سره، كما في الحديث: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق عن بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن كثير: روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين، ودليله قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:٥] إلى آخره.

وسيف للكفار أهل كتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:٢٩]، إلى آخره.

وسيف للمنافقين وهو في هذه الآية: ((جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)).

وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:٩]).

وهذا الكلام إذا صح نسبته إلى علي رضي الله تعالى عنه فهو يقتضي أن يجاهد المنافقون بالسيوف إذا جاهروا بالنفاق، وهذا هو اختيار الإمام شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى.

وفي الإكليل: استدل بالآيات من قال: بقتل المنافقين إذا أظهروا النفاق.

قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) يعني: شدد على كلا الفريقين بالقول والفعل.

(ومأواهم جهنم) في الآخرة (وبئس المصير).

قال بعض المفسرين في قوله: (واغلظ عليهم): إن الضمير (هم) يعود إلى الفريقين: الكفار والمنافقين.

وقال مقاتل: بل يعود فقط إلى المنافقين.

وقال ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: (واغلظ عليهم): يريد شدة الانتهار والزجر لهم، والنظر بالبغض والمقت.

وقال ابن مسعود: لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر.

قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح.

إذاً: هذه الآية فيها: الزجر، والشدة، والغلظة على هؤلاء المنافقين بعد جهادهم بالحجة وبالبيان، بخلاف ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في حق المؤمنين، فقال في حقهم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٢١٥]، وقال أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].

وقال الزمخشري: (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف، (والمنافقين) باللسان، (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً على الكفار إذا كنت تجاهدهم بالسيف، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:١٢] {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:١٢٣]، فهذا في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم.

ثم قال الزمخشري: وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه؛ يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن.

يعني: كل من وقف منه على فساد في العقيدة فله من الغلظة والشدة والزجر ما يليق بفساده، إن كان كافراً فبما يليق بكفره، أو مبتدعاً فبما يليق ببدعته، ولا شك أن الزمخشري نفسه ممن نال حظاً من هذا الزجر والشدة للفساد المعروف في عقيدته، فهو معتزلي، وكم تطاول على أهل السنة والجماعة، فانتصف منه الناصر في الكشاف في الرد عليه كما هو معلوم.

وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهجهم بالشعر -المؤمن يجاهد بنفسه وماله- والذي نفس محمد بيده! كأنما تنضحهم بالنبل)، وهذا نوع من الجهاد؛ بالقول أو بالكلام أو باللسان، إما بإقامة الحجة، وإما بالغلظة على المنافقين بالشعر أو غير ذلك من أساليب البيان.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان بن ثابت في حق المشركين: (اهجهم وروح القدس معك) يعني: يؤيدك ويثبتك، فهذا أيضاً بيان بأن من أنواع الجهاد الغلظة على المشركين، سواءً بالهجاء، أو بإقامة الحجة، أو بالإعراض عنهم، أو بالاكفهرار في وجوههم؛ فكل من ظهر منه نفاق ينبغي أن يعامل بهذه الطريقة.

ونلاحظ أحياناً حينما يقوم بعض أهل العلم بالرد على ملاحدة هذا الزمان وزنادقته ومنافقيه من الصحفيين أو بعض الشيوخ الضالين، كهذا الضال المضل الذي يطعن في الصحابة ويكفرهم وهو أحد الشيوخ الضالين؛ فتحت له (روز اليوسف) أبوابها، ونشرت له حواراً في هذه الأفكار الضالة المضلة في التطاول على أبي بكر وعمر، وهي نفس أفكار الشيعة من إباحة نكاح المتعة وغير ذلك من الضلال المبين، ومع ذلك نجد بعض الناس كما فعلوا من قبل أيضاً مع نجيب محفوظ وغيره؛ نجده يقول: أستاذي الكبير نجيب محفوظ قال: كذا وكذا! وهذا لا ينبغي، ويتكلمون بطريقة فيها لين في غير موضع اللين، وتعظيم لإنسان كافر أو فاسق أو مبتدع أو منافق أو قل ما شئت، فمثل هذا يتنافى مع هذا الأدب الذي علمناه القرآن مع المنافقين: ((وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))، فلا يقال في حق أمثال هؤلاء الصحفيين، أو الذين يسمونهم مفكرين: الأستاذ الكبير، ولا يذكر بنوع من الاحترام والتوقير، ونحو ذلك من الكلام المهذب الذي لا يليق بهؤلاء المعتدين المتطاولين على دين الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا نقع في هذا الفخ، وألا نظهر أي نوع من الاحترام أو التقدير لمن شاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.