للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم)]

ولما جلى سبحانه وتعالى ما جلى من أمرهم، فرع عليه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:٨٣].

قوله تعالى: (فإن رجعك الله) يعني: إن ردك الله من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين في المدينة، والمقصود المتخلفين بغير عذر، وإنما قال سبحانه وتعالى: (إلى طائفة منهم) ولم يقل: إلى كل من في المدينة؛ لأن منهم من كان معذوراً؛ لأن جميع من أقام في المدينة ما كانوا منافقين، بل كان منهم معذورون، ومنهم من لا عذر له ثم عفا عنه وتاب عليه كالثلاثة الذين خلفوا.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي: معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، دفعاً للعار السابق، هم لا يريدون وجه الله ولا أن يتوبوا، لكن يريدون دفع العار، وتحسين منظرهم أمام الناس.

(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) يعني: عاقبهم بألا تصحبهم أبداً، كما في سورة الفتح: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح:١٥].

(وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ): رضيتم بالقعود عني أول مرة، يعني: فخذلكم الله وسقطتم عن نظره، بل غضب عليكم وألزمكم العار (فاقعدوا مع الخالفين)، يعني: كونوا مع الخالفين من النساء والصبيان دائماً.

ومع أن هؤلاء الخالفين يشملون الإناث النساء لكنه غلب هنا المذكر فقال: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تغليباً للمذكر، وهذه الآية: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تدل على أن اصطحاب المخذل في الغزو لا يجوز، فلا يجوز في الغزو اصطحاب المخذل الذي يخذل الناس ويثبط هممهم.

(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) إذاً هناك تفسير للخالفين بأنهم النساء والصبيان والزمنى، أو المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، على أن الخوالف هم خساس الناس وأدنياؤهم، أحقر الناس وسفلتهم، فيقال: فلان خالفة أهل بيته، إذا كان دونهم أو فلان خالفة يعني: غير نجيب، إذا كان فاسداً في قومه، ومنه أيضاً: خلوف فم الصائم؛ لأن خلف فمه يعني: تغير ريحه، ومن قولهم: خلف اللبن أو خلُف اللبن بفتح اللام وضمها يعني: إذا فسد وحمض بطول المكث في السقاء، فالمقصود على هذا القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) يعني: مع الفاسدين.

قوله تعالى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) إخبار في معنى النهي للمبالغة، وذكر القتال: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا) لأنه المقصود من الخروج، فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد، أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين، وإظهاراً لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند.

يقول أبو السعود: فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين.

وهذه عقوبة شديدة لهم وأي عقوبة! وقال: وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة، يقصد قوله: (أول مرة)، فالصحيح في اللغة أن الأكثر الدائر على الألسنة: أن يذكر اسم التفضيل إذا أضيف إلى المؤنث، فإنك لا تكاد تسمع -بعد الاستقراء- قائلاً يقول: هي كبرى امرأة، أو يقول: هند كبرى النساء، لكن تقول: هي أكبرهن أو هي أكبر امرأة، ولا تكاد تسمع شخصاً يقول: هذه أولى مرة، لكن أكثر الاستعمال هو: أول مرة، فجاء قوله تعالى: (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) جرياً على الغالب في استعمال العرب.

وهذه الآية الكريمة: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) سبق أن نبهنا مراراً أن بعض الناس -بالذات في جماعة التبليغ- يحاكمون ألفاظ القرآن إلى ألفاظ محدثة فيحملون مثلاً الآيات التي فيها لفظ الخروج على الخروج المعهود الطارئ عندهم في جماعتهم، وقد يذمون من يتخلف عنهم بنفس هذه النصوص، فهذا بلا شك من الانحراف في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى، كما فسروا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠] بأنه الخروج بالكيفية التي يلتزمونها ولا يكادون يخرجون عنها!! وقوله هنا: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) قال الرازي: واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد -بعض متعلقيه: جيرانه أصدقائه زملائه أو غير ذلك- إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد، ورآه مشدداً فيه، مبالغاً في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلاقة بينه وبينه، وأن يحترز من مصاحبته، فالشخص القريب منك كزميل أو جار، إذا تأكدت -لا على سوء الظن ولا من مرة أو مرتين أو من مجرد إساءة تحتمل- أنه يظهر منه المكر والكيد والخداع، ويشدد في ذلك ويبالغ إلى أقصى ما يستطيع في توصيل ما أمكنه من الأذى إليك، فمثل هذا ينبغي أن تقطع العلاقة بينك وبينه، وأن تحترز عن مصاحبته توقياً لشره، ويستفاد هذا من قوله تعالى: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً).