للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نظرة الملأ للأنبياء وأتباعهم]

قال القاسمي: ((قال الملأ)) أي: الأشراف المليئون بأمور الدنيا القادرون عليها.

وهذه هي المصيبة العظمى: أن بعض الناس يستمدون قوتهم لا من علمهم ولا من عقلهم ولا من بصيرتهم، بل يتوهم أحدهم أن قوته بالمنصب الذي هو فيه، أو بالمال الذي يملأ جيوبه، أو بمتاع الدنيا الذي يملكه، فهو يرى أن قيمته تتحدد على هذا الأساس، وعلى هذا الفهم المنحرف الضال القاصر، فإنه يعطي نفسه ما ليس من حقه، فهو مستعد أن يفتي في كل قضية، وإن يدلي بدلوه في أي مسألة، حتى لو كانت بعيدة عما يخصه ويعنيه.

فعلى الإنسان أن يستمد قوته من إيمانه بالله، أما أن يستمد قوته ويتعامل مع الآخرين على أساس أن معه مالاً أو غير ذلك من أعراض الدنيا، فهذا لا وزن له ولا قيمة.

يقول القاسمي: ((فقال الملأ)) الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) لأنهم كانوا ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، لا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، لم يدركوا أن نوحاً ميزه الله سبحانه وتعالى بمرتبة أعلى من هذه المثلية التي يزعمون.

صحيح هو مثلهم من أنه بشر من طين، أو خلق من ماء مهين كما خلق سائر البشر، لكن هناك شيء آخر فوق هذا الجسد البدني أو هذه الصورة الآدمية الظاهرة، فهناك مراتب كمالات في العقول والاستعدادات والمواهب التي يفيضها الله سبحانه على من يشاء من عباده، ويفضل بعضهم على بعض، هم لم يلتفتوا إلى ذلك، فمن ثم لم يشعروا بمقام النبوة ورفيع قدرها ومعناها.

((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) انظر إلى الغطرسة! يظنون أن ما هم عليه من أحوال الدنيا هي مؤهلاتهم، فالواحد منهم يرى أن له أن يكفر بالأنبياء، وأن يحتقر من دونه في الدنيا وإن ارتفع عليه في الإيمان وفي الدين.

وقولهم: ((أراذلنا)) أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفيعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، فبالتالي يحتقرون من لم يؤت هذه الأشياء، فلذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) أي: أحط الناس فقراً أو مالاً أو جاهاً في مجتمعنا.

((بادي الرأي)) كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧].

وبادي الرأي أي: بديهة الرأي، يريدون أن يصفوا أتباع نوح عليه السلام الذين آمنوا به أنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، أي: أما نحن أصحاب الفكر والنظر فلا نستسلم لك بسرعة، فهؤلاء انقادوا لك بادي الرأي، يعني: أول ما سمعوا دعوتك انقادوا إلى هذه الدعوة.

فهم يعيبونهم بانقيادهم لنوح عليه السلام، يقولون: أما نحن أهل الفلسفة وأهل الروية وأهل العقول الراجحة فمثل هذه الدعوة لا نقبلها بسهولة، ولابد أن يكون الذي يدعونا للحق عنده المال والجاه، ولا يصاحب الفقراء ولا المساكين ولا الضعفاء، هذه هي القيم وهذه هي الموازين عند هؤلاء.

وقولهم ((بادي الرأي)) هذا مما لا يذم، بل مما يمدح؛ لأنه انقياد الإنسان للحق إذا ظهر أنه حق واضح مثل الشمس، فما الذي يمنعهم أن ينقاد هؤلاء كما انقاد من بعدهم قوم موسى عليه السلام، فإن السحرة آمنوا بمجرد أن رأوا الآية.

ويؤخذ من هذا أن المرء ينقاد للحق إذا ظهر، أي فلا تؤخر ولا تسوف ولا تؤجل الانقياد للحق، فهذا الذي يعيبونهم به هو من أعظم وأشرف مناقبهم حيث بادروا إلى الانقياد للحق.

وعلى نفس طريقة الملأ القداماء سار الذين يحاربون الإسلام اليوم، ويحاربون الدعوة والدين فهم يجادلون بنفس المنطق ويفكرون بنفس الطريقة، تجدهم يقولون عن الملتزمين: هؤلاء جهلة! ويجتهدون في تصويرهم بنفس هذه الصورة، كما تعرفون وتلاحظون ذلك في التمثيليات والمسرحيات والأفلام التي خرجت في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يخترع هذا الكلام كذاب، فهو يؤلف القصة من خياله بصورة تخدم هدفاً هو يريده، فلذلك يفتري ما شاء، والله له بالمرصاد.

فهؤلاء يتصورون أن الإنسان العاقل الكيس الفطن هو الذي يستطيع أن يتجر ويكسب أموالاً كثيرة، ولا يفكرون إلا في الكمالات الدنيوية الحقيرة، وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة، لا تقف عند كسب المعاش والأموال، بل عقول حائمة حول الارتفاع والارتقاء والتزكية والطهارة غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه.

قرأ أبو عمرو بالهمزة: ((بادئ الرأي)) والباقون بالياء.

معنى (بادي الرأي) على القراءتين: أما الأول: (بادئ الرأي) فمعناه: أنه صدر من غير روية، وذلك أول وهلة.

وأما الثاني: (بادي الرأي) فيحتمل أن أصله ما تقدم؛ لكن قلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، فيكون كالأول.

ويحتمل أن الياء أصلية من بدا يبدو كعلا يعلو، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول.

وعلى القولين هو منصوب على الظرفية: (بادي الرأي) والعامل فيه: (نراك)، أو: (اتبعك).