للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بطلان حجج الملأ من قوم نوح وسخافتها]

قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً ومن اتبعه، من وجهين، أي أنهم يريدون أن يبطلوا دعوة نوح بالاستدلال بأحوال متبعيه من وجهين: أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة فقالوا: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا، فليسوا قدوة وليسوا أسوة كهؤلاء الملأ.

الثاني: أنهم لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكر ولا روية.

وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة؛ لأن منهم من صدقه وآمن به.

وكلا الوجهين يبرهنان على أن هؤلاء الملأ من قوم نوح ضعفاء العقول جهلة.

إذاً الشريف هو الذي يتبع الحق، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، فأولى الناس بصفة الشرف والعلو والرفعة هم الذين ينقادون للحق، ولا يجادلون في الحق ولا يمارون فيه.

أما عند هؤلاء فالشرف هو المنصب والمال والجاه، ولذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)).

أما الرد على الوجه الأول: فلا خفاء في أنه ليس بعار عن الحق رذالة من اتبعه، أي: كون الفقراء والضعفاء والمساكين ينقادون للحق، لا يحوله إلى باطل، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه -أي: الحق- هم الأدنون وهم الأراذل ولو كانوا أغنياء، وفي الغالب أنه لا يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفتهم؛ لأن غالب الأغنياء والوجهاء يتكبرون؛ فيحجبهم ذلك عن الانقياد للحق والانتفاع به إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.

يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:٢٣] أي: على ملة.

{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣].

ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قال له فيما قال (أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل).

هذا فيما يتعلق بالرد عن الوجه الأول.

أما الجواب على الوجه الثاني: فإن المبادرة والإسراع لاعتناق الحق من أكمل الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد لكل ذي فطنة من اتباعه، ولا يتردد في قبول الحق إلا غبي، ومن قدرته العقلية ضعيفة لا يستطيع أن يفهم الحق مع وضوحه، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام؛ فهم يأتون بلغة قومهم، ويأتون ببينة واضحة لا تلتبس على أحد، مهما كان مستواه العقلي أو الفكري.

((وما نرى لكم)) هذا الخطاب لنوح وأتباعه.

((من فضل)) أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والجاه.

هذه هي طريقتهم في التفكير، فالله سبحانه وتعالى يبين لنا جهلهم وقصورهم من خلال كلامهم، ويبرز لنا الموانع التي حجبتهم عن الانقياد إلى الحق.

قال الزمخشري: كان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد ضل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله، وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة والتأهيل لها.

ثم يقول الزمخشري -وما أحسنه من كلام-: على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا وشأن من أخلد إليها.

أي: أما هؤلاء فبالعكس، فهم يعظمون الدنيا هذا التعظيم ويقولون: ((وما نرى لكم علينا من فضل)) أي: ليس عندكم أرصدة وأموال مثل التي عندنا، فلماذا نتبعكم؟ هذه هي المقاييس الوضعية الحقيرة لديهم.

بل هذه الدنيا التي يتباهون بها لا تبعد عن الله وتحط من شأن أهلها فحسب، بل من ضمن أهداف بعثة الرسل تصغير شأن هذه الدنيا وتحقيرها والتزهيد فيها، والترغيب في طلب الآخرة.

فإذاً هما طريقان لا يلتقيان: سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب ثم قال: فما أبعد حال الأنبياء عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله والتشرف بما هو ضعة عند الله! ((بل نظنكم كاذبين)) أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.