للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)]

الآيات السابقة في توبيخ أهل الكتاب، فبعد توبيخ أهل الكتاب توجه الخطاب إلى المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم عنه عام الحديبية، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام، وعمارة المسجد إحياء المكان وشغله بما وضع له.

عمارة المسجد لها معنيان: عمارة المساجد ببنائها، وأيضاً عمارة المسجد بإحياء هذ المكان وإشغاله بما وضع له، فالمسجد أقيم لعبادة الله، فعمارته بالاعتكاف، بصلاة الجماعة، بقرءاة القرآن، بمجالس الذكر، هذه العمارة أو أحد نوعي العمارة المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:١٨]، والمقصود هنا توبيخ المشركين بعد توبيخ أهل الكتاب.

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:١١٤] يعني: لا أحد أظلم ممن صد عن بيوت الله سبحانه وتعالى كي لا يذكر فيها اسمه بالصلاة والتسبيح والذكر، (وسعى في خرابها)، خرابها إما أن يكون بالهدم أو بالتعطيل.

يقول السيوطي: نزلت إخباراً عن الروم الذين خربوا بيت المقدس، أو نزلت في المشركين لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية من البيت، وصحح القرطبي رحمه الله تعالى أنها عامة في كل مسجد إلى يوم القيامة، والآية عامة، والوعيد فيها عام لكل من يرهب أو يخيف أو يؤذي أو يتسبب في تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى؛ فاللفظ هنا عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها قول ضعيف؛ لأن الآية: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله)، فإذا جاءت بصيغة الجمع وفي سياق العموم فلا يصح تخصيصها، ويكون القول بتخصيصها بمسجد واحد كبيت المقدس أو المسجد الحرام عام الحديبية قولاً ضعيفاً، فالقول الآخر للعموم يشمل هذه الأمثلة، ويشمل كل من يخرب بيوت الله سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة.

{أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:١١٤] (أولئك) الذين يخربونها هذا التخريب (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، قال بعض العلماء: هو خبر بمعنى الأمر، والمقصود بذلك: أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد منهم آمناً، يعني: لا يدخلها المشركون الذين يخربونها آمنين أبداً، فأخيفوهم فلا يدخلون بيوت الله وهم آمنون، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة:١١٤]، يعني: هوان بالقتل والسبي والجزية، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:١١٤] وهو النار.

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست، وعلى هذا القول فالخراب معنوي، أي أن معنى قوله: (وسعى في خرابها) خراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:٢٥].

وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي بالهدم، والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧].