للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب)]

قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨].

((وجاءوا على قميصه بدم كذب)) بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه.

((كذب)) هذا مصدر بتقدير المضاف أي: (وجاءوا على قميصه بدم) ذي كذب، أو أنه وصف به مبالغة.

(على) حرف جر، وهي ظرف لجاءوا، لأن كلمة (جاءوا) متضمنة معنى (افتروا).

((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) أي: من تغييب يوسف وتفريقه عني.

والذي قوى يعقوب وحمله على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولاً.

لم يقولوا مثلاً غرق في الماء، أو حصل له كذا، وإنما قالوا: أكله الذئب.

استدل بعض الناس بهذا القول على أن البلاء موكل بالمنطق.

وكذلك استدلوا بقول يعقوب عليه السلام في موضع آخر: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:٦٦] فأحيط بهم.

إذاً: قواه على اتهامهم أنهم ادعو الوجه الخاص الذي خافه يعقوب عليه السلام وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: ((وأخاف أن يأكله الذئب)) وكثيراً ما تتفق الأعذار الباطلة مع قلق المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار، واستنبط من هذا الحكم بالأمارات والنظر إلى التهمة، حيث قال: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً).

وفي الآية من الفوائد: أن الجاه يدعو إلى الحسد كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعلون عداوتهم أشد من عدواة الأجانب، مع أن الأصل من القرابات أن تكون هناك محبة أصلية وهي صلة القرابة، لكن قد يصل العداء بين الأقرباء إلى أشده كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربي أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند وكذلك الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلاً من الممكور به؛ لأن إخوة يوسف ظنوا أنهم أفضل منه، وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة وأظهره فعلاً لم يعتمد عليه، ولم يوثق بقوله.

ومن الفوائد أيضاً: أن الإذلال والإعزاز بيد الله عز وجل لا الخلق، وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبياً يخلق أولاً على طبع البشرية، وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل، وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر، انظر إلى الاحتياطات التي اتخذها يعقوب عليه السلام لحماية يوسف، حتى لاحظ إخوته ذلك: ((فقالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف)) عرفوا أن هذه الاحتياطات تدل على صدق حرصه الشديد وحراسته ليوسف، لكن لما أتى القدر لم ينفع الحذر.

قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض ولا ترى الشبكة فوقها قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.

((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) التسويل: هو تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن.

((فصبر جميل)) خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً، أي: فشأني صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل من الصبر هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق، ولا جزع فيه رضاً بقضاء الله ووقوفاً مع مقتضى العبودية.

((والله المستعان على ما تصفون)) أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف.

هنا تقديرات واحتمالات: ((فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)) الاحتمال الأول: كلمة (المستعان) تفيد الطلب، يعني: أطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينني على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف.

الاحتمال الثاني: أن المعنى (والله المستعان على ما تصفون) أي: على إظهار حال ما تصفون هل هو صدق أم كذب؟! قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:١٨٠] أي: من الكذب فكلمة (عما يصفون) يستدل بها على أن هناك كذباً، وهذا القول الثاني هو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:٨٣]؛ لأنه لو قلنا بالقول الأول أن المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف فإن معناه: أنه صدقهم فيما أخبروا به، لكن السياق والصيغة تشير إلى أنه لم يصدقهم، ولذلك قال: ((بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) فهذا السياق يؤيد أن الراجح هو إظهار حال ما تصفون وكذبه، وأنه من تسويل أنفسكم، وكذا استعملتها عائشة رضي الله عنه الله تعالى عنها في قصة الإفك قالت: (بل أقول كما قال العبد الصالح: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، يعني: على إظهار حال ما تصفون من الكذب.

وقوله: ((والله المستعان)) فيه اعتراف بأن التلبس بالصبر لا يكون إلا بمعونته تبارك وتعالى.

قال الرازي: إن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي دواع قوية، والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنهما في تحارب وتجاذب، فما لم تحصل إعانته تبارك وتعالى لم تحصل الغلبة، ولذلك قال: ((والله المستعان)) يعني: سأل الله أن يعينه على الصبر، فقوله: ((فصبر جميل)) يجري مجرى قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥]، وقوله: ((والله المستعان)) يجري مجرى قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥].