للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه)]

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:٥٨].

هذه إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف عليه السلام، وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل الرمل كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع المخصبة، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس من سائر البلاد في المسير إلى مصر ليمتاروا منها لأنفسهم وعيالهم، لما علموا وجود القوت فيها، وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف عليه السلام عن أمر أبيهم يعقوب عليه السلام لتناول القحط بلادهم فلسطين، فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف؛ خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما هبطوا مصر دخلوا على يوسف عليه السلام ولم يعرفوه؛ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، ثم إنه يبعد جداً أن يتخيلوا أن أخاهم الذي ألقوه في الجب يمكن أن يكون هو الملك الفعلي والحاكم في أرض مصر، فلذلك قال تعالى: ((وهم له منكرون)) وقد تخلصوا منه بأن باعوه رقيقاً يلتقطه بعض السيارة، فكيف يقفز إلى أذهانهم أن يكون قد وصل إلى هذا العز الذي وصل إليه والجاه؟! وفي نفس الوقت كان شكله قد تغير عما كان عليه زمن الصبا والحداثة.

أما هو فعرفهم، روي: (أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض تحية له، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان -يعني: فلسطين- لنبتاع طعاماً، فقال لهم: لعلكم جواسيس، قالوا: معاذ الله! ما جئنا إلا للميرة؛ لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة بنو أب واحد، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر هلك منا واحد، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن ابنه الصغير الذي هلك، قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وائتوا بأخيكم الصغير إلي ليتحقق صدقكم، ثم أخذ شمعون واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق)، وهذا ما أشير إليه بقوله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:٥٩].

((وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) بفتح الجيم وقرئ وبكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة، فيها كناية عن وفرة ما أعطاهم إياه من الطعام والميرة أي التمويل.

((أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)) أي: أتمه، ((وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: خير المضيفين، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به لا امتنان.