للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلق الله المخلوقات بكلمة كن]

هنا بحث مفصل جداً نختصره اختصاراً شديداً: بعض الناس أورد سؤالاً على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: إن كان هذا المخاطب (بكن) موجوداً فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ والجواب مفصل وطويل وممتع في نفس الوقت، لكن باختصار شديد جداً نقول: إن قوله تبارك وتعالى كما في هذه الآية: (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) هذا السؤال يكون صحيحاً إذا كان المخاطب معدوماً بالفعل، يقول تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠] لكن هل ذلك الشيء معدوم؟ ليس بمعدوم في الحقيقة، بل هو معلوم، وسبق في علم الله سبحانه وتعالى بأنه يخلق، فذلك الشيء معلوم قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدراً مقضياً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، كما في صحيح مسلم، فهذا الشيء الذي يخاطب هو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، يعني: له وجود في علم الله، وكتب الله أنه يكون، فهو له وجود كتابي، وله وجود كلامي بقوله: (كن) أي: كن كما سبق في علم الله سبحانه وتعالى، وإن كانت حقيقته -التي هي الوجود العيني- ليست ثابتة في الخارج، لكنها ثابتة في علم الله، وفي كلام الله، وفي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ.

فإذاً الخطاب هو موجه إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخلق وكون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠] فالذي يقال له: كن.

هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز علمي تقديري، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم.

ومعلوم أن جميع المخلوقات لا توجد عيناً في هذا الوجود إلا بعد وجودها في العلم والإرادة، أما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه الخطاب التكويني إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب حسب قدرته، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزاً لم يحصل، وقد يقول الإنسان: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].

وقال القاسمي رحمه الله تعالى هنا: (وإذا قضى) أراد، (أمراً) إيجاد أمر، (فإنما يقول له كن فيكون) يعني فهو يكون.