للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على المتصوفة الذين يجعلون الإلهام حجة]

يقول: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره؛ جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مستدلين بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:١٢٥]، وبخبر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)، كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات.

قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨].

وقال تعالى في آخر سورة طه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:١٢٣]، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:١٢٤]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يذكر الإلهام.

إذاً: غير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان؛ لأنه غير معصوم، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، حتى أن بعض الضلال يزعم أنه يحكم على صحة الأحاديث بأن يعرضها على قلبه -بأحدث طريقة في تصحيح الأحاديث- كما كان يزعم الفرماوي الضال المضل، كان يعرض الحديث عليه، فيعرضه على قلبه حتى سموه وقتها، ألباني -بهمز العامية- يعني: قلباني، يصحح الحديث بالقلب المريض، فيعرض عليه الحديث ويقول: هذا قاله الرسول أم لم يقله؟ ثم يأتي بعض الضلال خاصة من الدجاجلة الذي دخلوا في موضوع الشعوذة والغلو في موضوع الجن، فكان بعضهم يزعم أن معه قرين النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً يعرض عليه الأحاديث، يأتي بحديث ويقول له: هل الرسول قاله فعلاً وهل كنت حاضراً وقتها؟ فيأتيه الخبر من هذا القرين المزعوم، فهذا كله عبث، وهذا كله ضلال مبين، فلماذا كان السفر وجهاد علماء الحديث؟ ولو هذا باباً صحيحاً لتلقي العلم منه، ولما سافر العلماء واغتربوا ورحلوا في طلب العلم، وسهروا الليالي وألفوا الكتب.

يقول: وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وينبذ الإلهام بالعراء، يعني: ارم موضوع إلهام الصوفية بالعراء، ولا تلتفت إليه.

أعني به إلهام الأوليا: ليس بحجة شرعية.

وقد رآه بعض من تصوفا: زعموا أنه حجة شرعية.

وعصمة النبي توجب اقتفا، يريد أن يفرق بين إلهام الأنبياء وإلهام الأولياء، فإلهام الأولياء ليس فيه أي حجة، وإلهام الأنبياء هو الحجة؛ لأن عصمته توجب اقتفاء آثاره، وقبول الإلهام الذي يلهمه الله سبحانه وتعالى، فإلهام الأنبياء من الله سبحانه وتعالى صورة من صور الوحي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) إلى آخر الحديث.

قال: وبالجملة: فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، وعلماء المالكية يقولون: يقتل فوراً ولا يستتاب.

فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، ولم يقل: حتى نلقي في القلوب إلهاماً، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:١٦٥]، فلو كان الوحي الذي يوحيه الله إلى الرسل غير كاف لبقي في الناس حجة في غير الرسل عن طريق إلهام الأولياء، لكن جعل الحجة فقط للرسل.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:١٣٤]، والآيات والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً، وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].

وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة.

هذا الكلام يقوله بعض الصوفية الجهلة ويزعمون أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة، فيقولون: أنتم طريقكم الكتاب والسنة والأمور الظاهرة، ونحن لنا طريق باطني، يقولون: مثل حال الخضر مع موسى، كما أن الخضر كانت له شريعة وموسى كانت له شريعة ولا أحد يعترض على الآخر، وهم يزعمون أن الخضر كان ولياً ولم يكن نبياً.

وبالذات موضوع الخضر كان مرتعاً خصباً للاختراع والابتداع، وافتراء الأكاذيب.

نكرر هذه العبارة لأهميتها، يقول: وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطناً توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام؛ بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره، وهذا ما يلهج به كثير من جهلة الصوفية.

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم.

قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار؛ فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات فيشتغلون بها عن أحكام الشرائع الكليات.

يقول: قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب كما هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يوضحه الدليل في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب في سورة آل عمران.

ثم يقول: وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به: إن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب.

بل معنى الحديث: استفت قلبك في موضع الشبهات.

فمعنى الحديث التحذير من الشبه، وإلا لو جعل كل واحد قلبه المفتي الخاص به لوقعت فوضى لا حدود لها، فهذا يشرب الخمر ويستفتي قلبه وقلبه مريض، فلا يكون هناك ضابط وتضيع معالم الشريعة تماماً، المقصود: بـ (استفت قلبك): أن هذا حين تشتبه عليك الأمور كما سيبين الشيخ رحمه الله تعالى.

قال: فمعنى الحديث: التحذير من الشبه؛ لأن الحرام بين، والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحلية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك بالاستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة.

يعني: كرجل ليس عنده علم كثير، لكنه يرى عامة علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي القديم والحديث وفي السلف والخلف يحرمون الربا، ويجرمون آكل الربا، ثم يأتي واحد شاذ لا خبرة له في الفقه أصلاً يقول: إن الربا حلال؛ ليس تخصصه الفقه، فيفتي باستباحة الربا، فهذا مما ينبغي أن يستفتي الإنسان فيه قلبه ولا يستند فيه إلى مثل هذا المفتي؛ لأنه ضل في هذه الفتوى بلا شك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، حتى لوجدت من يفتيك بحلية شيء أنت تعلم من جهة أخرى أنه محرم فاستفت قلبك واتبع ما يدلك عليه قلبك من السير في القافلة العظمى من علماء الإسلام دون من شذ وتعدى حدود الله.

يقول: فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً وذلك باستناد من الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث واسطة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم.

قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الطرف، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، قال النووي في رياض الصالحين: حديث حسن، ورواه أحمد والدارمي في مسنديهما.

ولا شك أن المراد ب