للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نسب الخضر ودحض شبهة خلوده في الأرض]

تنبيه يتعلق بنسب الخضر، وفي كونه نبياً، وفي طول عمره وبقاء حياته على أطوار كثيرة: فمن قائل: بأنه ابن آدم لصلبه، أو ابن قابيل، أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وليس هناك دليل نقلي على صحة ذلك.

وقد احتج من قال: إنه نبي بقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}؛ لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله، والأصل عدم الواسطة، وقيل: كان ولياً، وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية، فهو مقام برزخي له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية، وقيل: إنه ملك من الملائكة.

وأما تعميره: فيروى عن ابن عباس: أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.

أي: مُدَّ له في أجله لأجل أن يكذب المسيح الدجال حين يخرج.

قال النووي في التهذيب: قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة؛ أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر.

وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات، وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت فلا يصح من طرقها شيء، ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل، وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟! انتهى ملخصاً.

ويقول الشنقيطي: قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهو باق أم لا؟ فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم، وخبر مسلمة بن مثقلة كالهراء، وخبر رياح كالريح، وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدر والأعجاز، لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً، أو أن يكون بعضهم تعمد ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:٣٤].

وقال صاحب فتح البيان: والحق ما ذكرناه عن البخاري وأقرانه في ذلك، ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يعتمد عليه ويصار إليه.

وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:٣٤]، ونفي طول التعمير لأحد من البشر، وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما، ومن قال: إنه نبي، أو مرسل، أو حي باق.

لم يأت بحجة نيرة، ولا سلطان بين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

وقال تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه: في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد ما مثاله يقول: وفيه كثير من الجن، وهم رجال الغيب الذين يرون أحياناً في هذه البقاع، قال تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:٦]، وكذلك الذين يرون الخضر أحياناً).

بعض الناس يظهر شخص يقول له: إنه الخضر، أو يقابله فيقول لك: قابلت الخضر في الحج؟ إلى غير ذلك، وهذا الكلام بضاعة رائجة في سوق الصوفية، وأغلب الذين يذكرون عنهم هذه الخرافات هم الصوفية، والذي يجالس الصوفية يسمع منهم هذا، فتجد أحدهم يقول: تبدى لي رجل في الصحراء، وقال لي: أنا الخضر إلى غير ذلك، ويرجع يقول: رأيت الخضر، يقول شيخ الإسلام: كذلك الذين يرون الخضر أحياناً هو جني رأوه، أي: كما تلعب الجن بعقول هؤلاء الناس، وقد رآه واحد ممن أعرفهم، وكان ذلك جنياً لبس على المسلمين الذين رأوه، وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حياً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه، فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمداً أن يؤمن به ويجاهد معه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:٨١].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يبعث الله نبياً إلا أخذ الله الميثاق عليه وعلى أمته لئن أتى محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه)، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدراً من أن يلبس الشيطان عليهم، ولكن لبس على كثير ممن بعدهم فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر، وإنما هو شيطان، كما أن كثيراً من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته.

وهذا واقع؛ لأن الشياطين لها القدرة على أن تتشكل في صورة الإنس، أو كما يقولون في موضوع تحضير الأرواح: إن الذي أمكن من تحضير الأرواح روح أحمد شوقي وأنشأه قد يرينا هذا الشيء ونجده بالضبط هو شعر أحمد شوقي إلى آخر هذا الكلام، طيب ما المشكلة؟ الذي حضر هذا ليس روح أحمد؛ لأن الله عز وجل قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:٤٢]، فالأرواح ممسكة عند الله، فما يمسكه الله لا مرسل له، ولا قدرة لها على أن تستحضر؛ لأن الله أمسكها، فكيف ترسل؟ أين الدليل على كونه يقول الشعر؟ وهل الجن عندهم هذه الملكة؟ قد يكون هو قرين أحمد شوقي الذي كان يلازمه، وكل إنسان له قرين، فلذلك يقول شعراً مثله أو نحو هذا، على أي الأحوال كل هذه الأشياء لا ينبغي أن ننخدع بها، ولا أن يلبس بها علينا.