للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موضع السدين]

التنبيه السابع: قال الرازي: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان، وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.

وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه: أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

وذكر ابن خرداد في كتاب المسالك والممالك: أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشهدوه، فوصفوه بأنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

يقول: فقد بعث إليه الواثق -يعني: إلى هذا السد- أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه، وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً.

هذه نقطة مهمة جداً في الحقيقة، يقول: حتى لو لم نستطع الآن أن نراه لم يضرنا.

وبعض الناس يقول: حصل مسح جغرافي شامل للكرة الأرضية، وأن هذا السد لو كان موجوداً لرأيناه إلى آخره، وهذا الكلام لا يسلم؛ لأنه كم من منطقة بالذات هذه المناطق الجبلية لم تطأها قدم إنسان على الإطلاق، وهناك مناطق لا يتصور أن يصل إليها إنسان، وهذا وارد، فهذا لا يضر خبرنا شيئاً.

يقول: وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً؛ لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء؛ بحيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة الشمالية.

ثم يقول: واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان، فهو كاذب مبطل جاهل أو متجاهل، لاسيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره، وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهية العقل، فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر، ونعوذ بالله من البلاء.

قال بعض المحققين: اعلم أن كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا.

فقد تحدث بين طبقات الأرض فروق عن طريق الزلازل والبراكين ونحو هذه الأشياء، ومثل هذا ما يسمى بـ: المتحف الروماني، أو المسرح الروماني فهو تحت الأرض، وكان من قبل جبلاً عالياً، وكان في هذه المنطقة بركان، ثم أزيل لأن رجلاً يونانياً مغرم بالبحث عن حلمه في الحياة، وكل حياته كرسها لأجل أن يبحث عن مقبرة الإسكندر، فكان يحفر حتى اكتشفوا المقابر أو المساكن ومن ضمنها المسرح الذي تحت الأرض، فما الذي هبط بهم؟ عذاب، فخسف الله بهم الأرض، أو زلازل أو براكين وانقلبت البلد، أو غطيت بهذه الأكوام من الصخور، إذاً: هذا شيء وارد في علم الله وفي قدرة الله سبحانه وتعالى، تحصل بعض الزلازل أو البراكين فتغير التركيب الجيولوجي للطبقات.

فيقول: كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زماننا هذا، فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن فربما كان ذلك ناشئاً من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة.

هذه المسألة فيها خلاف، ودليل القرآن يدل على بقاء هذا السد إلى يوم القيامة.

قد يقول قائل: كيف وقد قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:٩٨]، فمعناه: أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه، حيث كان هذا السد حائلاً بين يأجوج ومأجوج وبين الإفساد في هذه البلاد.

((قال هذا رحمة من ربي)) لمن؟ رحمة من الله بالأمم القريبة منه لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أنه مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل يدكها جمعاء دكاً في لمح البصر.

فمراد ذي القرنين بهذا القول: تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، ((فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء)) أي: إن الله قادر على أن يدكه دكاً.

قال: فأراد ذو القرنين تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله، فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان وكان هذا السد موجوداً دكه الله دكاً، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها لأسباب أخرى كالزلازل إذا قدم عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي هذا.

قال: وأما قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)) فالمراد منه: خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس المضغوط إذا انفجر، واستعمال لفظ الفتح مجازاً شائع في اللغة، ومنه قول: افتتحوا البلاد، وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:٤٤]، فليس للأشياء أبواب، وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والمراد أن المراد بخروجهم هذا -وهو الغالب- خروج المغول والتتار، وهم نسل يأجوج ومأجوج، وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الإفساد والنهب والقتل والسبي.

وهناك رسالة لأحد المصنفين بعنوان: يأجوج ومأجوج، في مجلد كبير، وتتبع الخروج المتعدد للمغول والتتار والإفساد الذي أفسدوه في الأرض بصورة مفصلة، والذي انتهى بأن هزمهم الإسلام وذابوا في الهوية الإسلامية، وفروا من ملوكهم وأصبحوا مسلمين يحكمون بالإسلام.

ثم يقول: والراجح أن السد كان موجوداً بإقليم داغستان -التابع الآن لروسيا بين مدينة ديربل وخوازر- فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بالسد، وبه موضع يسمى باب الحديد، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب بجبل قاف، وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويقولون: إنه في نهاية الأرض، وذلك بحسب ما عرفوه منها ومن ورائه قبيلة يأجوج ومأجوج.

انتهى.

وجاء في صفوة الاعتبار: أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين، فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلاً، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدماً، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدماً، وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدماً، وقالوا: إن هذا السور أيضاً كان من أحد الوسائل الدفاعية لرد هجمات المغول والقبائل الشمالية، والسور الآن خراب في جهات كثيرة.

وهذا تأويل بعيد.

يقول: فإن كان هو المراد بالسد في الآية لزم حمل الصفات المذكورة فيه من كونه زبر الحديد، ومفرغاً عليه النحاس على بقاع من ذلك السور.

وهذا احتمال بعيد جداً.

ثم قال بعض المصنفين في هذا: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي كوة قاف تقتضي أن هذا الجبل كان مسدوداً بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين، وهذا السد العظيم تارة يعزى للإسكندر وتارة لـ أنو شروان، ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن تروى لمن يروم ذلك.