للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المقصود بالرسول في قوله: (من أثر الرسول)]

التنبيه الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} هو جبريل عليه السلام، و ((أَثَرِ الرَّسُولِ)) يعني: التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، حيث قالوا: إنه لاحظ أن أثر الحافر ينبت فيه نبات، فتفرس وتفطن إلى أن فيه قوة حياتية، فمن ثم قبض هذه القبضة وألقاها في الحلي حينما صهرها؛ ليكون منها العجل.

يقول: فعامة المفسرين ذهبوا إلى أن الرسول هو جبريل، والمراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، ثم اختلفوا في السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر، وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور.

واختلفوا أيضاً كيف أن السامري اختص برؤية جبريل عليه السلام؟ فقيل: إنما عرفه؛ لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه،.

وكل هذا ليس عليه أثارة من علم، ولا يدل عليه التنزيل الكريم؛ ولذا قال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وههنا وجه وآخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) المراد بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته، ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، وفلان يقبض أثر فلان، إذا كان يمتثل رسمه، يعني يتبع هديه وطريقته، ويقال: فلان يقفو أثر شيخه، يعني: يتبعه، فأثر الرسول هو سنته وهديه ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير: أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بهذا العجل، فرد عليه السامري قائلاً: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنتك ودينك، فخالفته أي: طرحته، هذا هو الوجه الذي ذهب إليه أبو مسلم، وهو متجه؛ لأنه كما قال: لا توجد أدلة على هذا الذي حكوه من أن أثر الرسول هو جبريل، وأنه أثر حافر فرسه إلى آخره، فلم نقف على دليل على ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تفهم الآية بهذا الوجه المستقيم ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) يعني: هذا من فتنته بالشرك والردة، قال: أنا فهمت شيئاً لم يفهمه الآخرون، وعرفت لفطانتي وبصيرتي أنكم لستم على الحق، وأن الإسلام ليس هو دين الحق.

((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: اعتد برأيه، وظن أن ما عليه موسى وهارون وقومهما ليس هو الحق، وقد كنت من قبل قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، يعني: شيئاً من سنتك ودينك، ((فَنَبَذْتُهَا)) يعني: فقذفته وطرحته ورفضته، كنت متمسكاً بهديك وسنتك بالحق، لكنني عندما بصرت بما لم تبصروا به طرحت ونبذت هذا الشيء، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة.

وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟ وهو يشير إلى قوله: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) إذاً: الكلام هنا في سياق الغائب، وإن كنا في التفسير نقول: فقبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، لكن لفظ القرآن جاء في سياق الغائب، ((قَالَ)) مخاطباً موسى: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) لأنه في حالة خطاب مع موسى عليه السلام.

وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره، يعني: كيف يخاطبه بقوله: قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، وهو مكذب بموسى؟ فعلى مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:٦]، فهل هم يؤمنون أن النبي أنزل عليه الذكر؟ لا، لكن يقصدون بذلك أنهم لم يؤمنوا بالإنزال، لكن هذا على سبيل السخرية منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:٦ - ٧].

قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس مشهوراً باسم الرسول، فليست (ال) العهدية حتى تنصرف إلى جبريل عليه السلام، خاصة وأن جبريل عليه السلام لم يجر له ذكر فيما تقدم حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه؛ فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكلف بعلم الغيب.

يعني: لا يوجد دليل نقلي يثبت أن الرسول هو جبريل عليه السلام، فجبريل لم يشتهر بلفظ الرسول، بالذات عند الإطلاق كقوله تعالى في سورة المدثر: ((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ))؛ لأن السياق يرشدنا إلى أن الرسول المعهود هو موسى عليه السلام، أما هنا لم يجر ذكر جبريل، وجبريل لا يشتهر باسم الرسول بحيث ينصرف الاسم إليه عند الإطلاق، وأيضاً لم تجر لفظ الإشارة حتى تجعل لام التعريف في كلمة: ((الرَّسُولِ)) إشارة إلى جبريل عليه السلام.

إذاً: لا يوجد أي دليل على تفسير الرسول بجبريل، وكأن القول بأنه جبريل من ادعاء علم الغيب، فمن أين لنا أن أنه جبريل؟ هذا غيب، ولا يوجد دليل على تأييد ذلك.

ثانيهاً -أي ثاني الوجوه-: أنه لابد فيه من الإضمار، والإضمار بلا شك خلاف الأصل؛ لأننا كما قلنا: الوجه الأول من التفسير المشهور عند المفسرين: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً)) أي: من أثر حافر فرس جبريل، يعني: نحن نقدر ثلاث كلمات، والإضمار خلاف الأصل، الأصل ألا يكون هناك إضمار، فهذا إضمار فيه كثير من التكلف.

ثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان كيف أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ من أين عرف أنه جبريل؟! ومن أين رآه؟! ولماذا هو بالذات؟! ولماذا لم يره غيره من الناس؟! فنحتاج إلى التعسف في جوابنا على هذه الأسئلة.

كيف اختص السامري من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته أنه هو جبريل؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه بعيد.

يقولون: إن جبريل هو الذي رباه لما أنقذه من فرعون وهو صغير، ولم يقتله كما كان يقتل صبية بني إسرائيل وهذا احتمال بعيد؛ لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق، فكيف يحاول الإضلال؟! فلدينا أحد أمرين: إما أن السامري عرف جبريل في حال صغره قبل أن يكتمل عقله، وإما بعد أن اكتمل عقله، فإذا كان عرف جبريل وهو يأتي موسى عليه السلام من عند الله حال كمال عقله، فلا شك أنه سيعرف بذلك أن موسى نبي صادق، حيث هو يرى بعينيه جبريل ملك الوحي الذي ينزل على موسى، فهذا دليل قطعي على نبوة موسى عليه السلام، فكيف يرتد بعد ذلك عن الإيمان بموسى؟! وكيف يحاول إضلال بني إسرائيل؟! ثم إن كان لم يعرفه حالة البلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية في حصول تلك المعرفة؟ هذه أيضاً أشياء تستوجب قدراً كبيراً من التعسف للإجابة على هذه الأسئلة، والحقيقة أن هذا التفسير تفسير قوي، وله وجه للأسباب التي ذكرنا، فهذه من الفوائد العظيمة في تفسير القاسمي، فعضوا عليها بالنواجذ.