للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً)

ونختم الكلام بكلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى لقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧]، قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي: (يصُدون) بضم الصاد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة: ((يَصِدُّونَ)) بكسر الصاد، فقراءة الكسر معناها: يضجون ويصيحون، وقيل: يضحكون.

وقيل: معنى القراءتين واحد، كيعرِشون ويعرُشون ويعكِفون ويعكُفون.

وعلى قراءة الضم فهو من الصدود، والفاعل المحذوف في قوله: ((ضُرِبَ)) قال جمهور المفسرين: هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه.

أي: أن الذي ضرب ابن مريم مثلاً هو هذا الرجل قبل أن يدخل في الإسلام.

المقصود: ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى بن مريم مثلاً فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك.

أو أنه قال هذا الكلام الذي سنحكيه.

والظاهر أن لفظة (من) هنا في قوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) سببية، كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:٢٥]، ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات.

يعني: بسبب ضربه مات.

وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، قال ابن الزبعري: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: إن كل معبود من دون الله في النار، وإننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى بن مريم قد عبده النصارى من دون الله، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة؛ لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.

فيقتضي أن يكون عيسى عليه السلام مثلاً لأصنامهم في كون الجميع في النار، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يثني على عيسى الثناء الجميل، وهذا المشرك العنيد كأنه يلزم الرسول عليه السلام، ويقول للناس: هذا كلام محمد يضرب بعضه بعضاً، إذ كيف يثني على عيسى ويمدحه، ويصفه بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ثم يقول: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)) وهو معبود، فيدخل هو وعابدوه النار؟! فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار، مع أنه عليه الصلاة والسلام يعترف بأن عيسى رسول الله، وأنه ليس في النار، فيدل ذلك على بطلان كلامه عنده، وأن الكفار وآلهتهم لا يدخلون النار.

عند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:١٠١ - ١٠٣].

وأنزل الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي: ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل، لقصد الغلبة بغير حق.

وقيل: إن (جدلاً) حال، وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل: أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموا، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات، والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء؛ لأنه قال: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) ولم يقل: إنكم ومن تعبدون، وذلك صريح في أن المراد بها هنا الأصنام؛ لأنها جماد لا يعقل، فلا يقال فيها: (من) إنما يقال فيها: (ما) فهي مقتصرة هنا على الأصنام.

وأن قوله: ((وَمَا تَعْبُدُونَ)) لا يتناول عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لا يرد ذلك بقوله تبارك وتعالى بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١].

ووجه التعبير بصيغة الجمع في قوله تبارك وتعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) مع أن القائل هو عبد الله بن الزبعري السهمي يرجع إلى أمرين: أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس، مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير.

والشاعر يهجو بني عبس بذلك.

الأمر الثاني: أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه.

وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف:٧٧] وقوله أيضاً: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:١٤] وبين صيغة الإفراد في قوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:٢٩].