للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)]

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:٨١].

ثم أشار إلى رد إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ختماً للسورة بما بدئت به؛ لأن صدر السورة تعرض لإبطال ودحض دعواهم أن الملائكة بنات الله، وهذا يسمى في علم البديع رد العجز على الصدر.

قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) أي: لذلك الولد، والأولية بالنسبة للمخاطبين لا لمن تقدمهم.

قال الشهاب: ولو أبقي على إطلاقه على أن المراد إبهام الرغبة والمسارعة جاز.

قال القاشاني: وهذا إما أن يدل على نفي الولد عن الله سبحانه بالبرهان، وإما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم.

أما دلالته على الأول ففي قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:٨٢].

والتفسير في هذه الآية -وبالذات في تفسير القاسمي - مختصر جداً؛ مع خطورة الانحراف في فهم هذه الآية الكريمة.

ولذلك سوف نستعرض كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ حيث أبدع أعظم الإبداع في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).

اختلف العلماء في معنى (إن) في هذه الآية؛ فقالت جماعة من أهل العلم: إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.

والذين قالوا: إن (إن) شرطية اختلفوا في المراد بقوله تبارك وتعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)).

فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد.

وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً.

وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله؛ جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد.

والإنسان قلبه يتفطر وهو يقرأ هذا التفسير؛ لأن بعض الناس يتساهل في التفسير وعدم تنقيح الأقوال إلى هذا الحد الخطير، كما يتضح لنا أثناء مدارسة كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.

وبعضهم قال: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يعني: لذلك الولد، لكن هو ليس له ولد.

وهناك قول آخر: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً.

وكلا الاحتمالين في غاية الخطورة؛ لأنه يشترط في صحة الإيمان الكفر بعبادة أي والد وأي مولود، لا يصح الإيمان ولا الإسلام لأي شخص إلا إذا كفر أو اعتقد عدم استحقاق أي والد أو أي مولود لأن يعبد أو يتخذ إلهاً، هذا شرط في صحة الإيمان، والقضية في غاية الخطورة، كما سيأتي إن شاء الله.

القول الثالث: قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد.

وقال جماعة آخرون: إن لفظة (إن) في الآية نافية، تساوي ما النافية، والمعنى: قل ما كان للرحمن ولد.

وعلى القول بأن (إن) نافية ففي معنى قوله: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) ثلاثة أوجه: الأول وهو أقرب الوجوه: أن معنى قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)): ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له عن الولد وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.

والذي يقوي ويؤكد هذا التفسير ويصححه دون غيره هو قوله سبحانه في الآية التي بعدها مباشرة: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:٨٢].

الوجه الثاني: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أي: أنا أول الآنفين المستنكفين من ذلك القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له، والعرب تقول: عَبِد بكسر الباء، يعبَد بفتحها، فهو عَبِد، بفتح فكسر على القياس، و (عابد) سماعاً: إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه.

ومنه قول الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليباً بدارم قوله: (وأعبد) أي: آنف وأستنكف.

ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالم يعني: يستنكف أو يستكبر عليه.

وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه المشهورة: (أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت فولدت في ستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم؛ اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد؛ لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥]، ويقول جل وعلا: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:١٤]، فلم يبق عن الاتصال من المدة إلا ستة أشهر، فما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها لترد ولا ترجم).

فتأملوا هنا قول الراوي: (فما عبد عثمان) يعني: ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق حين أفتاه به علي رضي الله تعالى عنه.

الوجه الثالث: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

قال مقيده غفر الله له وعفا عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن (إن) نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء، وإنما اخترنا أن (إن) هي النافية لا الشرطية وقلنا: إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: أن هذا القول جارٍ على الأسلوب العربي جرياناً واضحاً لا إشكال فيه، فكون: ((إِنْ كَانَ) بمعنى: ما كان، كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:٢٩] أي: ما كانت إلا صيحة واحدة.

فمعنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم المنزه عن الولد، أو ما كان لله ولد فأنا أول الآنفين المستنكفين أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهل الآية على هذا فيها إشكال؟

الجواب

لا إشكال.

وأيضاً: هذا القول دال على تنزيه الله سبحانه وتعالى تنزيهاً تاماً عن الولد من غير إيهام لخلاف ذلك، فلا يوجد أي شيء من هذه الاحتمالات المبنية على أساس أن (إن) نافية، ولا يتوهم متوهم أن الله يمكن أن يكون له ولد أو أن يتخذ ولداً، فهذا الاحتمال أو هذا الإيهام غير وارد على الإطلاق.

الأمر الثاني الذي يعين تفسير (إن) بمعنى (ما) النافية: أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:٤ - ٥].

وفي سورة مريم قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:٨٨ - ٩٢].

والآيات التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية؛ لأن سياق آيات القرآن ونظام القرآن في كل الآيات عند نفي قضية الولد تأتي حاسمة وجازمة بنفيه بصورة ليس فيها أدنى إيهام.

فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح، فلنسلك بهذه الآية نفس المسلك؛ لأن هذه الآية قد تنازع العلماء في تفسيرها، فيترجح القول الذي يتفق مع أسلوب القرآن الكريم في عدة آيات في الصرامة والوضوح الكامل في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

فعندما نقول: ما كان للرحمن ولد على أنها بصيغة النفي الصريح، فهذا مطابق لقوله تعالى في آخر سورة بني إسرائيل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:١١١].

وقال تعالى في أول سورة الفرقان: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:٢].

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:٩١].

وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:٣].

وقال عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:١٥١ - ١٥٢]، إلى غير ذلك من الآيات.

والعلامة الشنقيطي يتناول هذه المسألة تناولاً في غاية الروعة، وكتاب أضواء البيان من درر العلم وكنوزه النادرة، وفيه من التحقيقات ما لا يوجد في غيره.

يقول: وأما على القول بأن (إن) شرطية، وأن قوله تعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى.

أي: أن هذا التفسير لا توجد آية واحدة تسانده.

الأمر الثالث الذي يحتم القول بأن (إن) نافية هو: أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا يجب تنزيهه عن حمله على معانٍ محذورة لا يجوز القول بها.

وإيضاح هذا: أنه على القول بأ