للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت)]

قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:١٣٤]، أمة ترد في القرآن وفي لغة العرب بعدة معان، منها: أن تأتي بمعنى فترة من الزمان، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:٤٥]، يعني بعد فترة زمنية، وبعد حين وزمان.

ومنها: أن تأتي بمعنى الدين والملة، والدليل قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:٩٢]، يعني ملة واحدة هي ملة الإسلام، والخطاب للأنبياء عليهم السلام، كذلك أيضاً قوله تعالى حاكياً عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:٢٢] أي: ملة ودين.

ومنها: الأمة بمعنى الشعب أو الجيل أو الجماعة كما في هذه الآية.

وهناك معان في اللغة العربية لا بأس بإيرادها استطراداً: الأمة بمعنى قامة الإنسان، فتقول مثلاً: هذا رجل حسن الأمة، يعني حسن القامة.

ومنها: الأمة الشجة التي تبلغ الدماغ، إذا شج الإنسان في رأسه حتى بلغت الدماغ فهذه تسمى أمة، يقال: رجل مأموم، ورجل أليم، يعني جرح جرحاً، أو شج حتى وصل أو بلغ الشج الدماغ.

أيضاً الأمة بمعنى: أم، تقول: هذه أمة زيد، أي هذه أم زيد.

والمقصود هنا بقوله: (تلك) إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين، (أمة) دين وجماعة، (قد خلت) سلفت ومضت، (لها ما كسبت) في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، (ولكم ما كسبتم) مما أنتم عليه من الهوى الخاص بكم، ولا يسألون هم عن أعمالكم ولا تسألون أنتم عما كانوا يعملون، والمعنى: أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم.

قال الرضي: (هذه الآية دالة على بطلان التقليد؛ لأن قوله: (لها ما كسبت) يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنتبهوا على ما يلزمكم، فتستدلوا على الإيمان والتوحيد، وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق، يعني اتبعوهم لكن ببصيرة، اتبعوهم، ولكن عن طريق النظر في أدلة التوحيد)، ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام والإيمان بهم لا يسمى تقليداً، وهذا مما يرد به على الرضي، فاتباع الأنبياء عليهم السلام لا يسمى تقليداً؛ لأنه خارج عن حده المقرر في كتب الأصول؛ لأن كلام الأنبياء هو الدليل، لكن غير الأنبياء إذا اتبعتهم بدون دليل فهذا هو التقليد، أما الأنبياء فكلامهم نفسه حجة؛ لأنهم مؤيدون بالمعجزات التي تدل على أنهم مرسلون من قبل الله تبارك وتعالى.