للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحباب عدم التوسع في المباحات]

قوله تعالى: (فاليوم تجزون عذاب الهون) الهون: هو الهوان بلغة قريش، فقد تورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، وكان يقول: أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقرعهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)، وقال أبو مجلز: ليتفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصناباً وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) قوله: (لأنا أعلم بخفض العيش) أي: أنا أعرف جيداً كيف أتمتع بأصناف المأكولات والمشروبات والملبوسات، فعندي خبرة في هذا وأعرف ذلك جيداً، وما أعرضت عنها جهلاً بها ولكنه يخشى هذه الآية.

ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء، والصلاء: هو السواء، والصواب: هي الأصبغة، والصلائق: ما يسلق من البقول وغيرها، والصلائق: الخبز الرقاق العريض، يقول: ولكني أستبقي حسناتي؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).

وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة، ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله، فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة.

فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بوناً بعيداً.

وفي صحيح مسلم وغيره: (أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئاً يرد البصر إلا أهباً -أي: جلوداً- معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله! أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالساً وقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، فقلت: استغفر لي، فقال: اللهم اغفر له).

وقال جابر رضي الله عنه: اشتهى أهلي لحماً فاشتريته لهم، فمررت بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟! فأخبرته، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:٢٠]؟ قال ابن العربي: وهذا عتاب منه على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جنس الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض؛ لغلبة العادة واستكراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله، والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأخذ ما وجد طيباً كان أو قفاراً ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلاً ولا يجعله ديدنه، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة وطريقة الصحابة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام، فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص ويعين على الخلاص برحمته.

وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن تناول الطيبات الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه، واستعان به على ما لا يحل له، فقد أذهبه، والله تعالى أعلم.