للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قول الشنقيطي في التقشف والتوسع في المباحات]

يقول الشنقيطي: واعلم أن للعلماء كلاماً كثيراً في هذه الآية قائلين: إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:٢٠].

والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش.

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية: هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذائذ التي أباحها الله لهم؛ لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:٥٩]، أما كون الآية في الكفار: فقد صرح تعالى بقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:٢٠]: هذا حاسم في الجواب، {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:٢٠].

إذاً: الآية في الكفار، والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع، مخلصاً فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم، ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله؛ فإنه يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية ونحو ذلك، ولا نصيب له في الآخرة.

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦] وهذا واضح تماماً أنه في حق الكفار.

وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:٢٠]، وهذا الثواب الدنيوي المذكور في هذه الآيات إنما هو بمشيئة الله وإرادته، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:١٨].

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، وهذا لفظ مسلم في صحيحه.

وفي لفظ له عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته).

فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، وبمقتضى ذلك يتعين تعييناً لا محيد عنه: أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة؛ لأن الدنيا جنة الكافر، وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً فلم يذهب طيباته في الدنيا؛ لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣]، فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.

وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢]، وتفسير ذلك في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].

فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:٣٢]، يعطيها للكفار في الدنيا، ولكن هي {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] خالصة يوم القيامة للمؤمنين، فالدنيا يعطيها الله من يحب ويعطيها من لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا لمن أحب.

فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة يكون لهم أجر زائد على ذلك؛ لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد كما هو معلوم، والنصوص دلت على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا؛ لأنه يجزى عليها في الدنيا فقط كالآيات المذكورة من قبل، وحديث أنس عند مسلم، قد تم الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:١٩].

قوله تعالى: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) يعني: الذل والصغار، (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون): هذه الباء سببية، وما مصدرية، أي: تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض وكونكم فاسقين.

وأوضح ذلك في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:٦٠]، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:٢٠]، وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:٢٠]، (بغير الحق): مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكباراً متلبساً بغير الحق، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:٣٨] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:٧٩]، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران:١٦٧]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه، فهذا أسلوب من أساليب العرب نزل به القرآن الكريم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} مع أن كل استكبار يكون بغير الحق، وهذا جارٍ على نفس هذا الأسلوب العربي.