للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك)]

قال الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:١٣].

قوله: (وكَأَيِّنْ) بمعنى: كم، قال الخليل وسيبويه: أصلها -أي: كلمة (كَأَيِّنْ) - أي، فدخلت عليها كاف التشبيه، فصارت كأين، وهي بدون التنوين في الأول، يعني: أن (أي) همزة وياء مشددة، أضف عليها كاف التشبيه فصارت (كأي)، فلزمتها كاف التشبيه فصار في الكلام بمعنى: كم، وجعل التنوين في المصحف نوناً فصارت (كَأَيِّنْ)؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها بتغير معناها، ثم كثر استعمالها عند العرب وتصرفت الكلمة فحصل فيها أربع لغات: وكائن، وكئن، وكأين، وكأي وكأيئن أربع لغات، وكلها بمعنى: كم، كما قال الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا وكئن: كاف همزة على نبرة ثم نون، ولفظ: (كأين) كهذا الذي في سورة القتال، ومنه قول الشاعر: كأين أبدنا من عدو بعزنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف وتقول: كأين رجلاً لقيته، بنصب ما بعد (كأين) على التمييز، وتقول أيضاً: كأين من رجل لقيته، وإدخال (من) بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود، يعني: أن تقول: وكأين من رجل لقيت، أفضل وأبلغ من أن تقول: وكأين رجلاً لقيته، كما تقول أيضاً: بكأين تبيع هذا الثوب، أي: بكم تبيعه؟ فقوله تعالى هنا: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) أي: وكم من أهل قرية وهي مكة، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) أي: أخرجك أهلها، فهو على حذف المضاف.

قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حذيفة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أُراه قال: التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك)، فأعدى الأعداء من أعتدى على الله في حرمه، أو قتل غير قاتل، أو قتل بلحون الجاهلية، واللحون: هي الأحقاد والعداوات، وهي جمع لحن، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}.

قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، يعني: هذا هو السر في تأنيث كلمة ((أخرجتك) فقال أولاً: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) وهذا مؤنث، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) ثم قال بعد ذلك: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ))، ولم يقل أهلكتها فلا ناصر لها، ففهم أن المقصود من القرية أهل القرية، لكنه في الجزء الأول راعى اللفظ، وفي الجزء الثاني راعى المعنى، فقوله: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) راعى فيه لفظ ((قرية) وأما في قوله: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) نظر فيه إلى المعنى.

قال جل ثناؤه: (أَخْرَجَتْكَ) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، ثم قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ)؛ لأن المعنى في قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) ما وصفتَ من أنه أريد به أهل القرية فأخرج الخبر مرة عن اللفظ ومرة عن المعنى.

قوله: ((فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) تهديد شديد، ووعيد لأهل مكة في تكذبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببه، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟! فإنه رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن هذه الأمة لم يهلكها الله سبحانه وتعالى إهلاكاً عاماً، فهذه من خصائص أمة محمد عليه الصلاة السلام أنه لا يأتي عذاب يستأصلها جميعها.

وكذلك بين الله سبحانه وتعالى أن هناك أمانين في عهد النبي عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]، فقد كانوا يستعجلون نزول العذاب، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢]، فالله أرحم بهم من أنفسهم فلولا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن انظر إلى الجهل والعتو! فإنهم قالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى قائلاً: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، إكراماً لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما دام في وسط هؤلاء المشركين، فوجوده أمان من نزول العذاب، فبركة وجود النبي عليه السلام تعم حتى هؤلاء الكفار؛ لأن وجوده معهم وبينهم يمنع نزول العذاب عليهم فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣] أي: وما كان الله ليعذبهم وفي وسطهم مؤمنون يستغفرون الله عز وجل.

إذاً: فهناك مانع يمنع وقوع العذاب على كثير من المشركين ولا أقول كل المشركين؛ لأن منهم من وقع عليه العذاب كـ أبي جهل، وغيره من أعداء الله، وخاصة من قُتلوا في بدر، وقد رفعت العقوبة في الدنيا عن كثير منهم بسبب وجود الرسول نبي الرحمة عليه الصلاة السلام، وليس معنى هذا أنه إن خفف عنهم في الدنيا أو لم يوقع بهم العذاب في الدنيا فإن العذاب سيخفف عليهم في الآخرة، كلا، فإنه سوف يضاعف لهم العذاب في الآخرة، قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠].