للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمثلة المضروبة في ذم الدنيا وحقارتها]

ومن الأمثلة التي تنبه الإنسان إلى حقيقة الدنيا ما قاله بعضهم، قال: للعبد ثلاثة أحوال: حالة لم يكن فيها شيئاً، وهي ما كان قبل أن يولد، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١].

وحالة أخرى: وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي في القبر، ثم البعث، ثم الخلود في إحدى الدارين، وكل واحد منا له تاريخ ميلاد وله تاريخ وفاة، فقبل أن يوجد في هذه الدنيا يحسب ما بقي من حين أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، أو من حين أن الكون وإلى الآن كم مضى؟ فهذه أول حالة، وقد كنت فيها عدماً، ثم هناك حالة أخرى عند الطرف الآخر من الرحلة وهي: من خروج روحه إلى الحياة البرزخية في القبر، إلى البعث والنشور، ثم الخلود في إحدى الدارين.

وهناك حالة متوسطة ما بين هاتين الحالتين وهي: أيام حياته، فانظر إلى مقدار زمانها ونسبتها إلى الحالتين، ولنفرض أن العمر مائة سنة مثلاً فلننظر إلى نسبة زمانها بالنسبة للحالتين، فإنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا، فتمر عليه ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، وفي شدة وضيق أو في سعة ورفاهية، فالدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.

مثال آخر: وهو أن شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت غايتها.

كان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم.

يعني: هذه هي النهاية.

مثال ثالث: روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة -الصحراء المهلكة- لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءهم هذا إلا من قريب، قال: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء! على ما أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء، ورياض خضر ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله -أي: أعطوني العهود والمواثيق أنكم لا تعصوني إذا دللتكم على مكان فيه رياض خضراء وماء عذب وكذا وكذا-، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً ورياضاً خضراً، قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء! الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم -يعني: هي أجمل وأبهى وأحلى-، قال: فقال جُلُّ القوم -وهم أكثرهم-: والله! ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا، قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره! فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل).

فهذا أيضاً مثال من أمثلة الدنيا، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من نصيحة أمته.

المثال الرابع: ما رواه المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومِن هوانها ألقوها يا رسول الله! قال: فوالذي نفس محمد بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها).

المثال الخامس: مثل الدنيا مثل إناء مملوء عسلاً، فرآه الذباب فأقبل نحوه، فبعض الذباب صعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعض الذباب الآخر حمله الترف على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه فلم يدعه الانغماس فيه أن يتهنأ به إلا قليلاً حتى هلك في وسطه.

فكذلك الدنيا: إن وقف الإنسان على الحافة وأخذ المقدار الذي يحتاجه في حياته نجا، وأما إذا انغمس فيها فإنه يغرق، ولذلك يكثر إخواننا في جماعة التبليغ من ضرب الأمثلة الطيبة كقولهم: إن السفينة تمشي في الماء، فما دام أن الماء خارجاً عنها فإنها تستطيع أن تمشي وتسلم، وأما إذا دخل الماء فيها فإنها تغرق، فكذلك الدنيا.

ومن الأمثلة أيضاً: ما رواه بعضهم أن رجلاً كان يمشي في صحراء، فوجد بئراً على طرفيه حبلان مثبتان، حبل من اليمين وحبل من الشمال، فتعلق بالحبلين ونزل ليشرب من هذا البئر، فلما توسط البئر وجد أمامه كوه أو فجوة في جدار البئر فيها عسل، وإذا به يمكث ليتناول هذا العسل، فإذا بفأرين من أعلى: فأر أبيض وفأر أسود، فأتى كل واحد منهما ليأكل طرف هذا الحبل وكل منهما في جهة، وإذا به ينظر في القاع فيرى وحوشاً وثعابين ونحوها، فهو في هذه الحالة يرى عمره، ويرى الحبل ينقرض في أعلى، ويرى العاقبة وأنه سيقع فريسة هذا التنين أو الوحش، ومع ذلك أخذ يتمادى في تناول هذا العسل، ويتلاهى عن المصير الذي ينتظره عما قريب.

فهذا مثل الدنيا، قالوا: فالفأر الأسود هو الليل، والفأر الأبيض هو النهار، فهما يأكلان عمره، وهذا الحبل هو عمره، فالحبل الأيام، والليل والنهار يقربان عمره، فالإنسان في الحقيقة ينقص عمره بمرور السنوات، فقد سبق في المقادير أن هذا الإنسان يعيش فترة مسماه كتبها له، فكلما مر يوم اقترب من القبر أكثر، فالعد في الحقيقة هو تنازلي وليس تصاعدياً، فهو يفقد من عمره كل يوم يمر خلافاً للجهلة الذين يقولون: عقبى مائة سنة، ويهنوا الإنسان، وأنا إلى الآن أعجب: كيف أن الإنسان يحتفل بما يسمى عيد الميلاد؟ فهل هذا عيد يقتضي الفرحة أم يقتضي الحزن والخوف من الله سبحانه وتعالى؟! لقد صرت الآن أقرب إلى القبر، وعمرك محدود لا محالة لا يزيد وإنما ينقص.

فكلما مرت سنة صرت أقرب إلى لقاء الله، فهذا اليوم المفروض أن يكون وقت عزاء وحزن وغم وهم إن لم تكن تستدرك هذه الأيام الماضية.

فالإنسان يتلهى في الدنيا، وينهمك في تعاطي هذه الشهوات، والعمر يقرض من فوق وينتظره المصير تحت في العذاب، فهذا مثال من الأمثلة.

مثال آخر: عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والجنادب يتقاحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها).

فالرسول عليه الصلاة والسلام مهمته إنقاذكم من النار، فأنتم كمثل هذا الفراش الذي يجذب ناحية الضوء ولا يدرك أن فيه إحراقاً وهلاكاً، فهو يذب الفراش كي ينجو، والفراش -لقلة عقله- يندفع ويصر على أن يرمي نفسه في النار.

فكذلك الناس يتهافتون ويلقون أنفسهم في النار بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن ينقذهم لكنهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم.

فهذه هي صفة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]، فما جاء الشرع ليعكر على الناس حياتهم، ولا ليعقد لهم حياتهم، ولا ليثقل كاهلهم، وإنما أتى رحمة بهم بكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلا يريد الشرع إلا مصلحتنا، ولا يريد إلا نجاتنا وسعادتنا، ومن هلك فإنه هو الذي يصر على هذه الهلكة، ويرفض أن يستجيب لداعي الله عز وجل.

فانظر إلى قول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها)، أي: أنكم أنتم الذين تصرون على أن ترموا أنفسكم في النار، أما أنا فأحاول إنقاذكم وأنتم تتقاحمون، فتخيل منظراً كهذا: شخص يريد أن يرمي نفسه بالنار، وآخر يمنعه وهو يقاومه يقول: لا، اتركني أرمي نفسي، إلى أن يغلبه فعلاً ويقع رغماً عنه.

فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يحاول انجاء شخص واحد، وإنما يحاول إنجاء ملايين البشر حين يدعوهم إلى التوحيد، وإلى الإسلام، وإلى النجاة من النار، وهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم.

مثال آخر وهو المثال السابع: مثل الإنسان ومثل ماله وعمله وعشيرته، مثل رجل له ثلاثة إخوة، فقضي له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة فقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل، وأحوج ما كنت إليكم الآن، يعني: أن السفر طويل وبعيد وشاق فأريد أن تصحبوني في هذا السفر، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا.

فقال له: لن تغني عني شيئاً.

فقال الأخ للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب.

فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري.

فقال: لا سبيل لك إلى ذلك.

فقال: لن تغني عني شيئاً.

فقال للثالث: ما عندك أنت؟ قال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك، وأنا صاحبك الآن، وصاحبك إذا ركبت راحلتك، وصاحبك في مسيرك، فإن سرت سرت معك، وإن نزلت نزلت معك، وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبداً.

فقال: إن كنت لأهون الأصحاب إليّ، يعني: أنك كنت عندي أرخص من هؤلاء الأصحاب أو الإخوة، إن كنت لأهون الأصحاب إلي، وكنت أوثر عليك صاحبيك، فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما.

فالأول: ماله.

والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه.

والثالث: عمله.

فالأول: ماله، الذي قال له: كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست لك بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا؛ لأن المال بمجرد خروج الروح لم يصبح ملكه، وإنما هو مال الورثة، فانقطعت الصلة.

وأما الأخ الثاني الذي قال له: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب، وهذا ما يفعله الأهل والعشيرة عند خروج روح الإنسان وموته، فهم لا يتركونه، لكن يبقون معه فترة مؤقتة كي يسرعوا في التخلص منه، ويبقى أعز الناس عليه وأحبهم إليه يقول: إكرام