للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال العلماء في معنى الفتح المبين]

مما قيل في معنى الفتح: أنه جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح.

وقيل: هو ما فتح له أو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام.

وقيل: فتح الروم.

ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله.

قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، وهذا الأمر في غاية الأهمية، وهو اختلاط المشركين بالمسلمين، فإنه يكون بركة على المشركين فضلاً عن المسلمين، ولذلك أنت إذا قارنت بين أحوال الكفار الذين يعيشون مع المسلمين في بلاد المسلمين وبين الكفار في البلاد التي ليس فيها مسلمون، تجد الفرق الكبير؛ لأن بركة المسلمين تشمل هؤلاء، فتجد أن عندهم الحياء والعفة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة من بركة معايشة المسلمين، بخلاف الذين يتمحض فيهم الكفر، فموضوع اختلاط المسلمين الصادقين الذين يطبقون الإسلام بالفعل مع الكفار من أعظم أسلحة الدعوة.

وتعرفون قصة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه، كان ثمامة ممن يحارب الرسول عليه السلام، وأسر في قتال بينه ويبن المسلمين، فماذا فعل به النبي عليه الصلاة والسلام؟ أسره وربطه في سارية المسجد، ثم تركه في المسجد ثلاثة أيام، وهذه حكمة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام تشير وتنبئ إلى هذا المعنى الذي نذكره الآن من قول بعض العلماء؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم؛ فتمكن الإسلام في قلوبهم، فهذا درس عملي ينبغي أن نقتدي بالرسول عليه السلام فيه، فقد ربطه في المسجد، فما الذي سوف يراه خلال ثلاثة أيام؟ حياة إسلامية مائة بالمائة أخلاق إسلامية عبادة لله توحيد سيسمع أي درس أي حديث فيه توحيد وفيه ذكر لله عز وجل، وبيان مقاصد ومحاسن الإسلام، يرى كيف يتعامل المسلمون بعضهم مع بعض يرى حسن الخلق يرى الأمانة يرى التعبد يرى البكاء من خشية الله يرى الركوع السجود ويرى بعض خيرات وبركات الإسلام.

فالذي حصل أنه كان كلما طالت إقامته مع المسلمين يبدأ يلين، فالرسول عليه السلام بعدما قيده في اليوم الأول أتاه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! -بدأ بالعدوانية- قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر) يعني: دمي لن يذهب هدراً، دمي له قيمة، ثم في اليوم التالي سأله نفس

السؤال

( ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم)، والعرب كانوا في غاية الدقة في اختيار الألفاظ ومراعاة الأولوية، فهذه المرة الثانية تجد أن اللين بدأ يتسرب إلى قلبه، فمفعول الدواء بدأ ينفع من معاشرة المسلمين في يوم واحد، ففي اليوم الثاني بدأت اللهجة تخف، قال: (إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم) فتركه مقيداً، وفي اليوم الثالث سأله نفس السؤال وأجاب بنفس الجواب؛ فأطلقه النبي عليه الصلاة والسلام حراً طليقاً، فماذا فعل ثمامة؟ كان قد وصل إلى القرار النهائي، فعمد إلى مكان قريب من المسجد واغتسل فيه، ثم أتى وشهد شهادة التوحيد، ودخل في الإسلام! فالشاهد: أن موضوع اختلاط المسلمين بالمشركين -أعني المسلمين الذين يطبقون الإسلام واقعاً وحقيقة- هو من أعظم ما يغزو قلوب هؤلاء المشركين.

وكما ترون أن العلماء يكادون أن يتفقوا على أن المقصود به صلح الحديبية! قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام.

وقال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس؛ ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.

وقال الزجاج: كان في فتح الحديبية آية عظيمة؛ وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر؛ فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس، لم يذكر الزجاج هذا مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من المتأخرين، لكن أياً كان فهذه المعجزة وردت في أحاديث متواترة، كحديث نبع الماء من بين أصابع يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والملاحظ أنه في كل مرة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو لهم بالبركة في الطعام يكثر الطعام تحت يده، ويكفي جيشاً بأكمله بعدما كانوا يشكون في أنه يكفي مجموعة قليلة من الناس! فهو كان يقول: ائتوني بإناء فيه شيء من الماء، ثم يضع أصابعه الشريفة، فينبع الماء، وهذا متواتر، وثابت بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم ثبوتاً قطعياً لا مجال للطعن فيه، فأحاديث كثيرة جداً فيها تكرر هذه المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يضع يده الشريفة في الإناء فيفور الماء من بين أصابعه.

والحكمة من الإتيان بماء في الأصل ألا يتوهم الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجده من العدم، وإنما هي البركة التي تنزل من عند الله في ماء خلقه الله أصلاً، فالطعام موجود لكنه يبارك فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.

والعلماء مختلفون فيما يتعلق بفتح مكة هل فتحت عنوة أم أنها فتحت صلحاً؟ وهذه القضية قد نتعرض لها بعد ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.