للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أعظم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إيتاؤه القرآن العظيم]

من أعظم خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق هي إيتاؤه القرآن العظيم، حيث شرفه بأن أنزل عليه أشرف كتبه بأشرف سفارة وهي سفارة جبريل عليه السلام في أشرف البقاع وهي مكة المكرمة في أشرف شهور السنة وهو رمضان في أشرف لياليه وهي ليلة القدر بأشرف لغة وهي اللغة العربية على أشرف رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة وهي أمة الإسلام.

فالله سبحانه وتعالى خص النبي عليه الصلاة والسلام بالقرآن العظيم، وجعله المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل وبما أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وبه ختم النبوة، وسوف تأتي أجيال وأجيال وأجيال بعد وفاته عليه الصلاة والسلام تنتسب إلى ملته وأمته، وتفتقر إلى هديه؛ إذا اقتضت الحجة على البشرية أن جعل الله سبحانه العلماء -الذين هم ورثة الأنبياء- يقومون ببيان الاستدلال بهذا القرآن الذي هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، ولذلك كان من أعظم فضائله إيتاؤه القرآن، فإنه كتاب معجز ومحفوظ من التبديل والتغيير والتحريف على مر الدهور قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].

والقرآن جامع لكل شيء، ومستغن عن غيره، ومشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب السابقة والديانات، وهو ميسر للحفظ، ونزل منجماً، ونزل على سبعة أحرف، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨]، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤١ - ٤٢]، وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، وقال عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:١٠٦] أي: جزأناه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:١٠٦]، وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:٣٢].

وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) يعني: المعجزات الحسية التي يؤمن البشر إذا رأوها، تقوم مقام كلام الله سبحانه وتعالى المباشر بأن هذا الرسول حق وصدق فآمنوا به واتبعوه، فبدل أن يخاطب الله الناس مباشرة بمثل هذه العبارة أرسل الرسل وأيدهم بما يقوم مقام هذه الشهادة بصدق الرسل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، كتاب علم كما قال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] يعني: وحياً؛ لأن العلم هنا هو الوحي، وطريق العلم هو الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قوله: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) معناه: أن معجزة الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ذلك خرقه العادة في أسلوبه وبلاغته، وإخباره بالمعنيات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر عنه أنه سيكون دليلاً على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

وقيل أيضاً في معنى هذا الحديث: إن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار: كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصائر، فلا تنقرض بانقراض مشاهدها، بل تبقى ويشاهدها كل من جاء بعد الأول باستمرار، فيكون من يتبعه لأجلها مؤمناً، ولذلك قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) لماذا؟ لأن معجزتي باقية ودائمة وخالدة.

إذاً: تخصيص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيتائه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من كتب ومعجزات، إذ كان ما أوتوه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون خارقاً من الخوارق ينتهي بانتهاء زمنه أو تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما القرآن فهو معجزة الدهر، وكتاب الزمن، ودستور الحياة في شتى نواحيها، يعلم الإنسانية ويأخذ بيدها إلى حيث رقيها وسعادتها، يصحح ما أخطأ فيه كبار الفلاسفة والمفكرين من الحقائق الكونية، ويقوم ما انحرف عنه زعماء المتدينين من العقائد الدينية، يساير التقدم العلمي ويدعو إلى تحرير الفكر والعقل من أغلال التقليد وأوهام الجمود، أثبت من النظم والقوانين ما لم يصل إليه فقهاء التشريع في القديم والحديث، وثم مناهج للأخلاق وآداب السلوك قصرت عنها أنظار علماء الاجتماع في أرقى الأمم حضارة في شرق الأرض وغربها.

يضاف إلى هذا فصاحة أسلوبه، وسلاسة ألفاظه وترتيله، وروعة تصويره، وأخذه بمجامع القلوب، وامتلاكه للنواصي والألباب.

وإنك لتجد البون شاسعاً بينه وبين سائر الكتب المنزلة الخفي منها والجلي، والكتب الأخرى غير القرآن الكريم كالتوراة والإنجيل كتب غير معجزة كما صرح بذلك شيخ إعجاز القرآن الأول من علماء التفسير وهو الزمخشري بلا منازع على بدعته وضلاله، واتباعه لمنهج المعتزلة، لكن مع ذلك فهذا مما لا يتكلم فيه عن جهل، حيث إن الزمخشري من أوفى الناس حظاً من ناحية بيان إعجاز القرآن الكريم البلاغية، فـ الزمخشري صرح أن الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل غير معجزة، إذ الإعجاز خاص بالقرآن من بين سائر الكتب السماوية، على أن الإنجيل عبارة عن مواعظ ووصايا ألقاها عيسى عليه السلام على أتباعه عقب نزولها عليهم من غير أن تدون في كتاب، والأناجيل الموجودة عند النصارى هي من تأليف بعض الحواريين، كتبوا فيها سيرة عيسى بعد رفعه بمدة طويلة، وهذا هو السبب فيما يوجد بين النسخ المختلفة من تناقض واختلاف وغير ذلك من التحريفات.

إذاً: اختص القرآن الكريم بكونه الكتاب المعجز دون سائر الكتب التي أنزلت على النبيين، فإذا وازنت التوراة المسماة: بالعهد القديم بأسلوبها وأحكامها وتعاليمها ووصاياها وما فيها من قصص وتواريخ بسورة من سور القرآن أدركت الفارق الكبير بين الكتابين، وكأنك بهذه الموازنة تحيك نور الشهاب من تلك الشهب التي تعترض في الأفق لامعة، ثم تنطفئ لا يكاد يقرأ بها أحد، إلا من كان يرقب حركاتها لغرض من الأغراض، كأنك تقرأ في نور هذا الشهاب بدون الشمس الذي يضيء الدنيا، ويبعث الحرارة في الكون، ويسري مع شعاعه الحياة والنور، ويذهب ظلام الليل وما حواه من ظلمات وأوهام.

ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:٨٧].

(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ) أي: لقد خصصناك بهذا الكتاب وشرفناك به، وذخرناه لك، ولم ننزله على إبراهيم وموسى وعيسى؛ لأنهم -وإن كانوا رسلاً مكرمين- لم يصلوا إلى رتبتك، ولا حاموا حول منزلتك، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:٥١].

قال الزمخشري: أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين؛ لأن هذه الآيات من سورة العنكبوت هي أن المشركين اقترحوا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:٥٠] فأتى

الجواب

(( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ))، لو كانوا فعلاً طالبين للحق فقد جاءتهم الآيات، بل جاءتهم أعظم آيات على الإطلاق: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ)) آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين، هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان؟! إن في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر لرحمة يعني: لنعمة عظيمة، وتذكرة لقوم يؤمنون.

وخص الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين، وآخرهم بعثاً، وبأن شرعه مؤيد إلى يوم القيامة، وناسخ لجميع الشرائع قبله، وأنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:٤٠].

(خاتم النبيين) يعني: آخر الأنبياء ختمت به النبوة، ولم يقل: وخاتم المرسلين؛ لأنه يحتمل لو قال: خاتم المرسلين أن يقول قائل: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فيمكن أن يبعث بعده نبي، لكن عندما يسد الباب بختم النبوة التي هي قنطرة إلى الرسالة؛ فلا شك أن ذلك يتضمن أيضاً ختم الرسالة.

وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:٤٨] فالقرآن مهيمن وحاكم على ما عداه من الكتب، ولذلك استدل بهاتين الآيتين -وهما قوله: ((وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ))، وقو