للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من مظاهر وسطية وخيرية هذه الأمة]

نقرأ الرسالة التي أرسلها شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جماعة عدي بن مسافر -فنتلوها عليكم باختصار لأن فيها فوائد عظيمة جداً متعلقة بهذه الآية ولا نستطيع أن نمر عليها مراً عابراً سريعاً- يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله وعما مضت عليه جماعة المسلمين -يعني أهل السنة، فهم ليسوا فقط أهل سنة ولكنهم أيضاً أهل جماعة يجتمعون- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة رواه عنه أهل السنن والمسانيد كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: (ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) هذا هو المقياس للفرق الناجية عن النارية، وهذه الفرقة الناجية هي أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين -يعني وسط في مواقفهم من هؤلاء- لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١] ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباباً، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٧٩ - ٨٠].

ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه ولد زنا كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.

وكذلك المؤمنون وسط في شرائع الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٨٠]-لأن اليهود ينكرون النسخ، ويعيبون المسلمين بوقوع النسخ، وأنكروا رسالة المسيح أيضاً؛ لأن المسيح أتى بنسخ بعض الشرائع في التوراة- فاليهود يعيبون النسخ وينكرونه، ولذلك أنكروا نسخ القبلة، وحكى الله أيضاً بقوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٨٠]، كذلك فالمسلمون لم يجوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر ذلك عنهم بقوله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم) والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: إن الله يحكم بما يريد، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيماً، كذلك في صفات الله تعالى فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا -والعياذ بالله-: يد الله مغلولة، وقالوا -والعياذ بالله-: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك، والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب، والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له، فقراء إليه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٣ - ٩٥].

ومن ذلك أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:١٦٠]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب -وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء والكليتين- ولا الجدي في لبن أمه إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً من المحرمات -أما المحرمات من الطعام في الإسلام محصورة وضيقة جداً- والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت -يعني لا يعيشون معها في البيوت-، وأما النصارى فاستحلوا الخبائث، -أي: عكس التشديد الذي كان عند اليهود- أما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:٥٠]، ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، فإذا كان هذا حالهم أيضاً في الحلال والحرام، فكيف نعت الله المؤمنين في هذا الباب، يقول تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:١٥٦ - ١٥٧].

وهذا باب يطول وصفه.

وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله وبين المفسدين لدين الله، بين المجبرة وبين القدرية إلى أن يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء) ثم ناقش بالتفصيل طرفي النقيض في هذا الموضوع بين الفرق الضالة، كما ذكر وسطية هذه الأمة أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه ويبن هؤلاء الجفاة الذين يعادونه ويعادون عثمان رضي الله تعالى عنه.