للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها]

تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته.

يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال.

فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣].

ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٧] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل.

والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى.

الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) والجواب من موسى عليه السلام: ((قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار.

والثقة بالله سبحانه وتعالى.

وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً.

وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه:٦٧]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٧] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: ((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة.

وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث.

يقول: كما قال تبارك وتعالى: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:٤٠] قال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:٤٠] إلى آخر الآية.

وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم.

فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي