للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن القيم في بيان أن الظن السيء من أخلاق المنافقين والمشركين]

قوله تبارك وتعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) هذا مما يبين لنا أن هذا الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى من أخلاق المنافقين والمشركين، وقد وضح الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في أثناء كلامه في كتابه الرائع: (زاد المعاد) هذا المعنى حينما كان يذكر الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد، فيقول: وأنهم -أي: بعض المنافقين- يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ولم يهمهم أمر دين الله، ولا نبيه، ولا أصحابه، فهؤلاء أهمتهم أنفسهم لا أمر الدين، ولا أمر النبي عليه السلام، ولا أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كان من شأنهم أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يصيبهم القتل، فهذا هو معنى ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ))، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة والقدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:٦]، وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظنهم غير الحق، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران:١٥٤] يعني: غير ظن الحق ظن الجاهلية؛ لأنهم ظنوا غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء؛ لأن هذا سوء الظن بالله، كأن يظن أحد أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، وأن المسلمين سيستأصلون تماماً ويقضى على دينهم ودعوتهم، فهذا سوء ظن بالله عز وجل، وفيه نسبة ما لا يليق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمه، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، ولكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء! تأملوا الكلام هنا على من يظن هذا الظن، ظن أن الإسلام يقضى عليه تماماً إلى الأبد، ولا ترتفع له كلمة؛ هذا من ظن السوء بالله، وهو الظن اللائق بالمنافقين والمشركين وأعداء الدين، أما المؤمنون فلا يمكن أن ينسبوا إلى الله ما لا يليق به، لكن لا يعكر على هذا أن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠]، يوم لك ويوم عليك، الصراع بين الحق والباطل من سنن الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، أما أن يظن أن الباطل يتمكن ويقهر الإسلام إلى الأبد، بحيث يضمحل الإسلام، ويقضى على الدعوة تماماً؛ فهذا سوء ظن بالله عز وجل، ونسبة ما لا يليق به إليه.

يقول: وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة مستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله.

وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته.

وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدر من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧].

وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص به، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء.

فهذه بعض من صور الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى، والقنوط واليأس من روح الله عز وجل كما سنبين ذلك تفصيلاً.

يقول: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أن يترك خلقه سدىً معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه لن يجمع عبده بعد موته للثواب والعقاب، في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، من لم يعتقد بذلك كله فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحصل منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحكم سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقدر قبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء.

وهذا رد على الأشاعرة وغيرهم في موضوع التحسين والتقبيح العقلي.

قال: ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشارات خفية لم يصرح بها، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير مراده، ويتطلبون له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز.

وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم ما يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمه ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بطريقة دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يقصد من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال -هذا كله رد على من يلحدون في الأسماء والصفات- وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا من أسوأ الظن بالله.

فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.

ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه؛ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً؛ فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان؛ فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم له ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.

ومن ظن به أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح؛ فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة والمقربين وأوليائه المصلحين؛ فقد ظن به ظن السوء.

الإمام ابن القيم استعرض كل الفرق المنحرفة في باب العقائد في هذا الفصل الرائع من كتابه المبارك: (زاد المعاد)، ونكتفي بهذا الاقتباس من الكتاب، ونختم بقوله: فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله، ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بسوء الظن من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل